الجمعة، 2 يناير 2009

ملف كامل لمن طلب علم القراءات







بسم الله الرحمن الرحيم


هذا ملف كامل لمن طلب علم القراءات


نسأل الله أن ينفعنا وإياكم










مصحف شعبة عن عاصم

مصحف قُنــبل عن ابن كثير

مصحف البـــزي عن ابن كثير
______________________

مصحف قالون عن نافع1

مصحف قالون عن نافع2

مصحف قالون عن نافع3

مصحف قالون عن نافع4

مصحف قالون عن نافع5

مصحف قالون عن نافع6

______________________

مصحف ورش عن نافع1

مصحف ورش عن نافع2

مصحف ورش عن نافع3

مصحف ورش عن نافع4

مصحف ورش عن نافع5

مصحف ورش عن نافع6

_____________________

مصحف الدوري عن أبي عمرو

مصحف السوسي عن أبي عمرو

مصحف خلـــف عن حمزة

مصحف خـــلاد عن حمزة

_____________________

مصحف هشام عن ابن عامر

مصحف ابن ذكوان عن ابن عامر

مصحف الدوري عن الكسائي

مصحف أبي الحارث عن الكسائي



أرجو التبليغ عن أي رابط لا يعمل



...
..
.








من هو الإمام عبد الله ابن كثير؟

من هو الإمام أبو عمرو بن العلاء؟

من هو الإمام الكســائي؟

______________________

متـــن الشاطبية (حرز الأماني)

الدرة المضيئة في القراءات الثلاث

شــرح الشاطبية

الوافي في شرح الشاطبية

الروض النضير في تحرير أوجه الكتاب المنير

(كتاب في القراءات وتاريخها )

التيسير في القراءات الســبع

العنوان في القراءات الســبع

______________________


حجة القراءت

المعنى القرآني في ضوء اختلاف القراءات

المنهاج في الحكم على القراءات

النشر في القراءات العشر

حل المشكلات وتوضيح التحريرات في القراءات

______________________




أصول رواية قالون عن نافع

أصول رواية خلف عن حمزة

أصول رواية السوسي عن أبي عمرو

أصول رواية الدوري عن الكسائي

أصول رواية البزي عن ابن كثير

______________________

المحيط بأصول رواية قالون عن نافع

المختصر الجامع لأصول رواية قالون عن نافع

الثمر الجني في رواية قالون المدني

الجسر المأمون إلى رواية قالون

الجوهر المكنون في شرح رواية قالون

الثمر اليانع في رواية قالون عن نافع

______________________

توضيح المعالم في الجمع بين روايتي عاصم1

توضيح المعالم في الجمع بين روايتي عاصم2

رواية حفص من طريق الفيل من كتاب المصباح

الرياش في رواية الإمام شعبة بن عياش

تيسير الأمر في الجمع بين قراءتي عاصم وأبي عمرو1

تيسير الأمر في الجمع بين قراءتي عاصم وأبي عمرو2

طلائع الفجر في الجمع بين قراءتي عاصم وأبي عمرو1

طلائع الفجر في الجمع بين قراءتي عاصم وأبي عمرو2

طلائع الفجر في الجمع بين قراءتي عاصم وأبي عمرو3

جدول الفروق بين روايتي حفص والدوري

______________________

الفرائد المرتبة في بيان خلف حفص من طريق الطيبة

السنا الزاهر في قراءة ابن عامر

الإستبرق في رواية ورش عن نافع


______________________

الطريق المنير إلى قراءة بن كثير

الفوز الكبير في الجمع بين قراءتي عاصم وابن كثير1

الفوز الكبير في الجمع بين قراءتي عاصم وابن كثير2

الجدول النمير في قراءة عاصم والبصري وابن كثير 1

الجدول النمير في قراءة عاصم والبصري وابن كثير 2

القمر المنير في قراءة الإمام ابن كثير

______________________

النهج السوي في رواية السوسي عن أبي عمرو البصري

حسن الجلاء في رواية لسوسي عن أبي العلاء

النور السنائي في قراءة الإمام علي الكسائي

زاد السائر إلى قراءة ابن عامر

القول الأصدق فيما خالف فيه الأصبهان الأزرق

الوجوه المسفرة في القراءات الثلاث المتممة للعشرة

تنوير القلوب بقراءة يعقــوب

__________________________


فوح العطر في قراءة الإمام أبي عمرو

غاية سروري في رواية الدوري

عمدة العرفان في تحرير أوجه القرآن

عدة الخبير في الجمع بين حفص وابن كثير1

عدة الخبير في الجمع بين حفص وابن كثير2

عبير من حسن الجلاء في رواية السوسي عن ابن العلاء

عبير من التحبير في القراءات الثلاث


__________________________


كيف ترتل القرآن برواية قالون؟


كتاب تسلسل الأفكار في حفظ القرآن

فتح الكريم في تحرير أوجه الكتاب العظيم



السبعة في القراءات

الإضاءة في أصول القراءة

طيبة النشر في القراءات العشر

__________________________







أرجو التبليغ عن أي رابط لا يعمل



...
..
.








سلسلة فك الوثاق.. ح1- الشيخ الحويني





سلسلة فك الوثاق بشرح كتاب الرقاق

من صحيح البخاري




لفضيلة الشيخ

أبي إسحق الحويني




(الحلقة الأولى)







أن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.



أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه من كتاب الجزية والموادعة من حديث جبير بن حيّة رحمه الله، قال: ندبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى غزو كسرى، وأمّر علينا النعمان بن مقرن، فلما وصلنا لأرض العدو، خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، وقال لترجمانه: ليكلمني أحد منكم. فقال له المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: سل عمّا شئت. قال: ما أنتم؟ ولم يقل لهم من أنتم احتقاراً لهم. فقال المغيرة: نحن ناس من العرب، كنا في بلاء شديد، وشقاء شديد، فينما نحن كذلك إذ بعث رب السموات والأرضين تعالى ذكره وجلّتْ عَظَمته، رسولا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فدعانا إلى عبادة الله سبحانه وتعالى. قال: كنا نلبس الشعر والوبر، ونعبد الشجر والحجر، حتى أتانا رسول ربنا تعالى ذكره وجلت عظمته، فدعانا إلى الله سبحانه وتعالى، وأمرنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم عن رسالة ربنا تبارك وتعالى أن من مات منا دخل جنةً لم ير مثلها قط، ومن عاش منا مَلَك رقابكم. من آخر كلام المغيرة رضي الله عنه آخذ الخيط في هذه الحلقة التي أجعلها مقدمة بين يدي شرحي لكتاب الرقاق من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه.




مشكلتنا الكبيرة هي ضعف الانتماء، نحن أمة ولادة، ليست هناك أمة من الأمم على الإطلاق فيها من نباهة الرجال وصدق انتمائهم مثل ما لأمتنا. لخّص المغيرة القضية كلها، وبيّن دور هذه الأمة وأنها بُعثتْ لتعمَّ عبادةُ الله تعالى الأرض، وأنه لا يجوز أن يرفع رأسه في الأرض إلا هذه الأمة التي وحّدتْ ربها عز وجل، وأن الكافر لا يجوز له أن يرفع رأسه، لأنه لا يستحق أن يأكل وأن يشرب من هذا الخير الذي جعله الله عز وجل بين يديه، إما أن يدفع الجزية صاغراً، وإما أن يعبد الله تبارك وتعالى.





هذه هي الرجولة، والرجولة معنًى كبير، ليست مرادفة للذكورة، إن من النساء فيه من صفات الرجولة ما ليس عند الذكور. الرجولة نباهة وفداء ونجدة ونبل ومروءة. كان الصحابة الأوائل الذين قاموا بهذا الدين رجالا كما وصفهم اللع عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُوْا مَا عَاهَدُوْا اللهَ عَلَيْهِ} ، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح، وصححه ابن حِبان وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه قال: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس غلى الله، ويتتبع الناس في بيوتهم وفي المواسم- أي في مواسم الحج- يقول: "من يؤويني؟ ومن ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة" حتى إن الرجل ليخرج من مضرَ فيأتيه قومه ويقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك. وكان يمشي بينهم يدعو إلى الله عز وجل يشيرون إليه بالأصابع- أي احتقاراً له- كما قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا لَيُزْلِقُوْنَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوْا الذِّكْرَ وَيَقُوْلُوْنَ إِنَّهُ لَمَجْنُوْن}، يزلقونك بأبصارهم أي ينظرون إليك النظر الشزر احتقاراً ويقولون إنه لمجنون، قال جابر رضي الله عنه: حتى بعثنا الله عز وجل إليه من يثرب فأتيناه فآمنا به وصدّقناه، وكان الرجل منا يسمع منه الكلام فينقلب إلى أهله فيتلوه عليهم، فقلّ بيتٌ من بيوت المدينة- طيبة- إلا وفيه نفر من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمرنا جميعا- وكانوا سبعين رجلا- فقلنا: "إلى متى يطرد النبي صلى الله عليه وسلم في جبال مكة ويخاف؟" هذا هو معنى الرجولة، إلى متى يطرد، وإلى متى يخاف!.. "فواعدناه شعب العقبة، فلما وافوه في موسم الحج، قالوا: يا رسول الله! علامَ تُبايعنا؟ قال: تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى أن تأمروا بالعروف وتنهوا عن المنكر، ولا تخافون في الله لومة لائم، وإذا أتيت إليكم تمنعونني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ولكم الجنة. فقام أسعد بنُ زرارة- وكان أصغر السبعين- فقال: هلمّ. قال للذين معه: على رسلكم، فوالله إنا لم نضرب إليه آباط المطيّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، ولكن إخراجه هو مفارقة العرب كافّة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وإما إذا آنستم منكم جبناً فبيّنوا، فهو أعذر لكم". هذا كلام أسعد، يقول إن تبني هذه الدعوة معناها أننا سنفارق العرب ونقاتلهم فيقتل خيارنا وأن تمسنا السيوف، فهو أمر من اثنين، إما أنكم رجال تصبرون على ذلك فلكم الجنة، وإذا خشيتم من أنفسكم جبنا فبيّنوا منذ الآن، حتى يكون أعذر لكم عند الله عز وجل، أي لا تقل أنا رجل ولست برجل، لا تقل أنا أستطيع وأنت غير مستطيع، هذا معنى كلام أسعد بنِ زرارة رضي الله عنه وكان أصغر هؤلاء السبعين. فلمّا قال أسعد ذلك قالوا: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا نُقيل هذه البيعة ولا نسليها، فقمنا عليه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة.




أمتنا أمّة ولاّدة، نحن أمة متخصصة في صناعة الرجال، نحن أمة جنباتها ملآنة بالمواهب، ما الذي جرى؟ إننا نسمع اليوم أصواتًا ينعق أصحابها بسبّ السلف الأوائل، وتحقيرهم، وإظهارهم كأنهم قوم لا يفهمون.

قبل أن آتي إلى هنا، كنتُ عند بعض إخواني، فرأيت في بعض القنوات الفضائية، برنامجا بم يستغرق نظري أكثر من خمس دقائق، ثم انصرفت عنه. في هذه الدقائق الخمس كان الحوار عن الإمام الخاري، وكانت الحلقة فيما يبدو عن النقل والعقل، فأورد المتحدث مسألتين، كان يتكلم عن البخاري، وأنْ ليس كل كلام جاء في البخاري نسلم به. المقطع الأول من كلامه: كان يتعلق بحديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في صلح الحديبية. هذا حديث رواه البخاري رحمه الله. في هذا الحديث لما جاء عروة بن مسعود الثقفي- وكان إذ ذاك كافرا- وكان هناك مفاوضات، وبديل بن ورقاء جاء قبل عروة بن مسعود، وفاوض النبي عليه الصلاة والسلام وقال له ما قالت قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لبديل: "نحن ما جئنا لقتال، وإن شاءت قريش ماددتهم مدة أخرى على أن يخلوا بيني وبين الناس، وإلا والله لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي- أي صفحة العنق-سأقاتلهم ولولم يبق معي أحد". أي لو قاتلت أنا وحدي سأقاتل على هذا الأمر. قال بُديل: سأبلغهم ما قلت. قم جاء الدور على عروة بن مسعود الثقفي. وقبل أن ينطلق عروة جاءه أشراف قريش فقال لهم: ألستم بالوالد؟- أي أنتم مني بمنزلة الوالد- قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟- أي أنا منكم بمنزلة الولد- قالوا: بلى. قال: هل تتهمونني؟ قالوا: لا. قال: دعوني حتى أدهب إليه. فجاء عروة بن مسعود الثقفي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه وفيهم أبو بكر رضي الله عنه، فبدأ عروة كلامه متنفخاً متبحجاً، قال: يا محمد! إنها واحدة من ثنتين. أن تحدث حرب بينك وبين قومك، فهل رأيت أحدا اجتاح قومه قبلك؟! وغن كانت الأخرى فوالله ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر: أ نحن نفرّ وندعه؟ امصص بظر اللات. فلما سمع عروة هذا الكلام انزعج، هذا سبّ بليغ لآلهتهم. فقال: من هذا؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ابن أبي قحافة. فقال عروة له: لولا أن لك عليَّ يداً لأجبتك. انتهى الكلام، ثم جيء بوضوء، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يتوضأ، فرأى عروة عجبا من العجب، ما سقطت قطرة ماء على الأرض، فقد كان الصحابة يتلقفون بقايا وضوئه صلى الله عليه وسلم، ما تنخم البين صلى الله عليه وسلم نخامة فوقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يرفعون الصوت عنده، ولا يحدون النظر إليه تعظيما له. رأى عروة هذا المنظر فرجع إلى قومه. ولأرجو أن تستحضر الان طريقة كلامه الأولى- جاء متنفخاً في مركز قوة فقريش منعته من الوصول إلى البيت وحبسته- فرجع عروة إلى قريش ورفع التقرير التالي. قال: ياقوم! والله لقد وفدتُ على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، فوالله ما رأيت أصحاب ملك يعظمون مليكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة فوقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، وكانوا لا يحدون النظر إليه تعظيما له، ولا يرفعون الصوت عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. قبل قليل كان يقول له: ما أرى حولك إلا أوباشا- أي لا تتكثر بهم فإنهم أوباش من رعاع الناس وسَقَطتهم فلا تتكئ عليهم- فلما رأى هذا المنظر علم أن أمثال الذين يتقاتلون على نخامته صلى الله عليه وسلم لا يُسْلِمونه أبداً حتى تخرج الروح.





اعتراض المتكلم يقول: بأي شيء نقدم الإسلام إلى الناس؟! نخامة! إنه شيء "يقرف" وقع النخامة في يد رجل يدلك بها وجهه وجلده! شيء "يقرف" هذا الحديث مكذوب. لماذا كذّبه؟ لأنه لم يذق طعم الحب الذي ذاقه الصحابة ومن ذاق عرف، "ويا لائمي! لو كان قلبك عند قلبي لعذرتني"، فأنا أستغرب، ففي دنيا الناس الآن، الأم، حين يلفظ ابنها الصغير الطعام من فمه، أفلا تأكله؟ هذا شيء "يقرف" أيضا ومع ذلك، تأكله الأم ولا تشعر بهذا "القرف" الذي يتكلم عنه هذا المتكلم. الإنسان المحب، الإنسان العاشق، لا يسيّره إلا مراضي من يحب، كل شيء يأتيه من حبيبه فهو حسن، لا يرى في حبيبه عيبا إذا كانت محبته كاملة، فمن رأى في حبيبه عيبا فمحبته معلولة، فيعترض بمثل هذا. لكنه كما قلت لا ذاق ولا عرف.

إن أكثر هؤلاء يعترضون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا كتاب منير ولا بينة واضحة، وليس عندهم من الأصول العلمية التي كانت عند علمائنا ما يتكئون عليه في تسديد الفهم، لم يقرؤوا، بل لعل الواحد من هؤلاء لا يحسن أن يقرأ في كتاب الله آية على الوجه الذي نزلت به.





الحديث الثاني- وأنا لا أريد أن أسهب من الكلام لو فنحت هذا الباب فالكلام طويل- الذي كذّبه وقال: هذا مكذوب. حديث عمرو بن ميمون، قال: "رأيت الرجمَ في الجاهلية- قبل أن يسلم- رأيت قردةً زَنتْ، واجتمعت القرود وجمتْها، ورجمتُها معهم". يقول هذا الكلام مكذوب لأن الرجم ونحوه في بني آدم وليس في الحيوانات. القصة هكذا أوردها الإمام البخاري مختصرة، هذه القصة أوردها أبو بكر الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري من طريق آخر عن عمرو بن ميمون مطولاً. الشاهد: هل يمكن لإنسان أن يتصور أن البخاري رحمه الله مع ما رزق من الفهم العالي جدا- كما سيمر بنا وسترون إن شاء الله عز وجل العجب العاجب من تبويبات البخاري ومن فهم البخاري لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم-فهذا الإمام الذي عُقدتْ عليه الخناصر وصار كلمة إجماع، وسار اسمه على مدار القرون كالشمس في رابعة النهار يجهل أن الحيوانات غير مكلفة؟ في أي موضع روى البخاري هذا الحديث؟ هل أورده في كتاب الحدود مثلا؟ في باب الرجم؟ حتى يقال: أورده في باب الرجم فهو يرى ان القرود لما رجمت كانت مكلفة؟ لا. أين أورد البخاري هذا الحديث في صحيحه؟ وضعه في كتاب: "مناقب الأنصار" تحت تبويب: "القسامة في الجاهلية"، أي أن البخاري ما قصد قط أن يقول إن القرود رجمت، لأنه لو أراد هذا المعنى لوضعه في كتاب الحدود باب الرجم. ثم، الإسناد صحيح؛ لأنه ورد من طريق آخر. فلما صحّ الإسناد فإن هذا المتكلم يقول: مهما كان الإسناد صحيحا فالمتن فيه علة. ما هي العلة؟ قال: القرود غير مكلفة. أريد أن اعرف شيئا، ما دام قد صح الإسناد إلى عمرو، إلى القائل، إذن فقد قال هذا القول. إذن عمرو بن ميمون قد قال هذا القول، يبقى في رؤية عمرو نفسه، فإذا أخطأ عمرو بن ميمون في توصيف القصة لا يُقال الحديث كذب، إنما يقال: أخطأ عمرو بن ميمون فقط. فأنت من تكذب؟ عمرو بن ميمون؟ الصادق الأمين، رجل أمانته في الذروة، وضبطه كالمسمار في الساج، نقل منظرا رآه بعينيه. أتقول: هو كذاب؟ لا يحل لك أن تقول ذلك إذا ثبت السند إليه أنه قال هذا الكللام. لكن من الممكن أن تقول: غلط عمرو بن ميمون. فقط ولا تقل: الحديث كذب. ولا تقل في البخاري أحاديث مكذوبة، إنما تقول: غلط عمرو بن ميمون.




هل عمرو بن ميمون غلط؟ وهل عمرو بن ميمون- هذا التابعي الجليل- كان يجهل أن الرجم موضوع عن الحيوانات، وأنه لا يكون إلا في المكلفين؟ هل كان عمرو يجهل هذه الحقيقة؟ لا. لكن المنظر الذي رآه عمرو رأى فيه شبها بما يكون عند بني آدم، فلا قصد زنا، ولا قصد حداً. هذا هو الموضوع، ونحن نعرف ان القرد شبيه ببني آدم في كثير من حركاته، حتى قا ل القائل: إن الإنسان في الأصل قرد. بسبب ماذا؟ حين تنظر إلى القرد وإلى حركاته وأكله وشرب ويمشي على رجلين وإن كان لا يسير كهذا مسافة طويلة، وله أصابع كبني آدم، ويأكل ويقشر الأكل كبني آدم بالضبط، وعلماء الحيوان يقولون: إن عند القرد من الغيرة على العِرض مثل بني آدم. ويقال: إن القرد إذا تزوج لا يعدو إلى قردة أخرى. هذه مواصفات، عمرو بن ميمون رأى أن القصة- للذي لا يعرفها في تفصيل أبي بكر الإسماعيلي- إن قرداً عجوزا وزوجته قردة شابة نائمة على ذراعه، جاء قرد شاب "بصبص لها" وأصل البصبصة تحريك الذيل، فانسلت برفق وخفة من على ذراع القرد العجوز، وذهبت مع القرد الشاب. يقول عمرو بن ميمون: فواقعها وأنا أنظر. - فهذا شيء يراه كما هو واضح- فبعد أن قضت مأربها رجعت فوضعت رأسها على يد القرد العجوز، بمجرد أن أحس القرد برأسها على ذراعه وشمّها صرخ، وجعل يصرخ ويشير إليها، قال: فأتت القرود بالقرد الذي واقعها وأنا أعرفه. فحفروا لهما حفرة في الأرض، وصاروا يرجمونهما بالحجارة إلى أن ماتا.

هذا هو الذي رآه عمرو بن ميمون، وهو حق وصدق، يبقى توصيف عمرو بأن هذا "رجم"، أليس في هذا شبه؟ أليس هذا هو الرجم؟ ما هو رجم الزاني المحصن؟ إذا زنا وثبت عليه الزنا بالطائق الشرعية المعروفة، يحفر له وللزانية معه حفرة إلى نصف الجسم، لا يظهر إلا بعض الصدر والرأس، ثم يرجم بالحجارة حتى يموت. هذا هو الرجم الذي اتفق علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة جميعا على إثباته بالأدلة الصحيحة الكثيرة. فحين تنظر إلى حقيقة الرجم عند بني آدم، وإلى حقيقة الرجم عند عمرو بن ميمون، يمكنك أن تقول: هذا رجم. لكن ما قصد عمرو بن ميمون زنا ولا قصد حدا، إنما هي مسألة شبه. فالبخاري لا يُعترض عليه بمثل هذا. خذ من هذا الزخم في الفضائيات والإذاعات وفي الجرائد والمجلات، خذ من هذا الزخم كثيرا جدا، أناس يعترضون وليس عندهم حجة بينة.





إذا كان الكلام يمكن تأويله على وجه صحيح فلا يرد، وهذا كلام معروف عند أهل العلم. القصد يا إخوان أن أمتن أمة عظيمة ولادة، من هذه الأمة ذاك الإمام- الإمام البخاري- وقبل أن أدلف وأدخل على كتاب الرقاق، أنا أريد أن أبين من هو البخاري، إن أكثر الناس يعرف لقبه ولا يعرف اسمه فضلا عن حياته، وحياة البخاري لا أستطيع أن أسهب فيها، وقد ترجمت للبخاري- قبل ثلاث سنوات- في المسجد ترجمة مسهبة استغرقت ثمان ساعات، ثمانية مجالس في ترجمة الإمام البخاري، وأنا لم أسهب ولم آخذ راحتي في الكلام، فأنا لا أستطيع بطبيعة الحال ان أتوسع ذلك التوسع الكبير في ترجمة البخاري، لكن، لعل الترجمة قد تستغرق الحلقة القادمة أيضا، ولا بأس لأن هذا فيه شحذ للهمم، ويعرف قدر شرف المرء بجلالة العامل، فكلما كان العامل جليلا رفيع القدر، كان الذي يخرج منه على مثل وزنه:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. .:. .:. .. وتأتي على قدر الكرام المكارم

وأقول هذا تحفيزا للشباب وتحفيزا لطلبة العلم ليعلموا أن الذود عن دين الله عز وجل لم يكن في عصر نحن في أمسّ الحاجة إليه كهذا العصر الذي كثر فيه المروق والزندقة والكفر والفجور، وتصدر الآن قوانين في جنبات الأرض أن لكل إنسان أن يتكلم بما يريد، فيقال لك: هذه حرية رأي، لا تحجب رأيي، أنا أقول فإن لم يعجبك فردّ ولا تمنعني. وطبعا هذا فيه من الخلل والخطل ما لا يخطر لك على بال، هذا فيه تضييع الدين كله، وتضييع مكارم الأخلاق، لأن كل إنسان يتكلم بما يريد. كيف يتكلم بما يريد؟!! لا يجوز لأحد أن يتكلم إلا بحقّ، أن يتكلم كلاما صوابا.





حين نرجع إلى السلف الأوائل ونضرب المثل بهم، بعض الناس يمتعض ويشمئز، حتى قال قائلهم يوما- وقد ذكر بعض الصحابة- قال: هؤلاء أقوام يبولون على أعقابهم. فهل رأيت أناسا ينظرون إلى أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم بمثل هذه النظرة؟!!.. إلى أمثال هؤلاء أقول وأضرب المثل الآتي، حين أضرب المثل بالصحابة إنما أضربه على سبيل الاستئناس، وإلا فالحجة عندي قائمة بسير السلف الصالحين، وما عندهم من الهمة العالية، حتى - لولا أن الإسناد صحيح- لكدت لا أصدق، لكن صحّ الإسناد إليهم، وسنذكر نماذج من هؤلاء الصحابة والتابعين والعلماء.

لكن هناك صنف من الناس، حين تضرب له المثل بالكافرين يخضع، ومن الممكن أن يقتنع. وأنا عندما أضرب المثل أقصد به هؤلاء. ما الذي ضيّع الدنيا؟ ما ضيّع أي ملة أو مذهب؟.. "ترك الانتماء"، الانتماء أساسه الحب، صدق الانتماء هو طوق النجاة، حتى نحرج من هذه العثرة التي نعيشها الآن. تناقلت المجلات العلمية هذا الخبرظن لكن قبل ذكر الخبر، ذكر الكاتب الذي ترجم هذه المقالة الكلام الآتي: قال: أرسلت اليابان بعثات إلى أوروبا، وأرسلت العرب بعثات أخرى في نفس الوقت، فتقدمت اليابان والعرب لا يزالون يركبون ظهر السلحفاة، فما هو السر؟ سرد الحكاية الآتية التي أدلل بها على أن صدق الانتماء هو طوق النجاة: ذكر أن طالبا اسمه ساهير خرج من اليابان إلى ألمانيا ليدرس علم المحركات، يقول ساهير: لو استمعت إلى نصائح أساتذتي الألمان لما خرجت بشيء. كان قد ذهب ليحصل على الدكتوراه في المحركات. يقول أنه أول ما ذهب إلى الجامعة أعطوه كتبا نظرية وما أدخلوه معملا من المعامل. يقول: إن أي وحدة صناعية لها وحدة أساسية "الموديل"، هذا المحرك كيف يعمل؟ لا أدري، ما وحدته الأساسية؟ لا أدري. طبعا طالب مثله يحضر الدكتوراه وعلى نفقة الدولة فله راتب، قبض راتبه في هذا الشهر، ذهب إلى معرض محركات إيطالي واشترى محركا بقوة حصانين استوعب راتبه كله، اشترى المحرك وكان ثقيلا جدا، أخذه إلى السكن، قال: وضعته أمامي على المنضدة وأنا أنظر إليه كأنه تاج من الجوهر وأقول لو استطعت أن أفك لغز هذا المحرك لغزونا أوروبا.





كان الذي يعنيه منذ خرج محنة اليابان، بعد أن حدثت الحرب العالمية وبعد انكسار الامبراطورية اليابانية، وتوقيع معاهدة الاستسلام أمام الحلفاء، وكان منظراً لا ينساه أبداً أهل اليابان، هذا الانكسار وتوقيع وثيقة الاستسلام وحرمان اليابان من الصناعات العسكرية وإطلاق يدها في الصناعات السلمية. هذا الشاب كان يتجرع آنذاك مرارة الهزيمة، كل الذي كان يعنيه هو مجد اليابان، ما قصد دكتوراه ولا قصد أن يصير شيئا في البلد.

وكان لهم أستاذ في البعثة. جاء [الشاب] بالمحرك، ووضعه على المنضدة، وأخذ يفكر، كيف أفك هذا المحرك؟ وكيف أفهمه؟ أنزل خرائط المحركات، درسها دراسة جيدة، بدأ يفك الإطار الخارجي (جسم المحرك من الخارج) وبدأ يرسم كل قطعة يفكها من المحرك ويعطيها رقما، حتى يتمكن من تركيبه ثانيةً. فك المحرك كله، ثم ركّبه كله، وشغله فاشتغل. قال: كاد قلبي أن يتوقف من الفرح. استغرقت منه هذه المسألة ثلاثة أيام. ذهب إلى أستاذه في البعثة، وقال له فعلت كذا وكذا، قال له: حسناً، هنا محرك متعطل، إذا كنت فعلا قد اجتهدت وفهمت، انظر ما الذي عطل هذا المحرك. أخذ المحرك وفكّه، فوجد أن فيه تروسا متآكلة، بدأ يعمل يدويا بالمطرقة والمبرد لعمل التروس، ثم ركبّها وشغله فاشتغل، وأخذت منه هذه القصة عشرة أيام، نسي أن لديه دكتواره، المجد الشخصي نسيه؛ لأن عنده همّ كبير اسمه "اليابان"، اليابان المهزومة. أستاذه الذي كان بمثابة الأب الروحي له قال: يجب أن تلتحق بمصانع صهر النحاس والحديد والألمونيوم. التحق بهذه المصانع، وكان يخدم العمال، لأنه يريد أن يأخذ منهم علما، يقول: مع أنني من عائلة ساموراي-عائلة كبيرة في اليابان- لكن طالما المسألة تتعلق بمجد اليابان فسأنزل تحت النعال. هل تعلمون كم سنة ظل في هذا المصنع؟ ثمان سنوات مشتغلا في صهر الحديد والنحاس والألمونيوم.





الميكادو- رئيس اليابان أو رئيس الطائفة- سمع بجد هذا الطالب فبعث له خمسة آلاف جنيه استرليني، هل تعرف ماذا صنع بها؟ كان يحلم أن ينشيء مصنعا للمحركات على أرض اليابان، لم يأخذ الخمسة آلاف جنيه ويشتري بها لنفسه شيئا، لأن لديه هما كبيرا، هذا الهم أنساه همّه الخاص، اشترى معدات مصنع بالخمسة آلاف جنيه استرليني، لكن بقيت لديه مشكلة، أجرة الشحن من أين يأتي بها؟ انتظر حتى بداية الشهر فقبض راتبه وبعض المدخرات عنده ودفع أجرة شحن هذا المصنع. حين نزل إلى أرض اليابان، أرسل إليه الميكادو قائلا: أريد ان أراك. قال له: أنا لا أستحق أن تراني حتى أنشيء مصنعا على أرض اليابان. هل تعرف متى لقي الميكادو؟ بعد تسع سنوات كاملة يعمل في دأب وصمت مع مجموعة معه، وبعد السنوات التسع أخذ عشرة محركات وذهب إلى الميكادو في قصره، شغل له المحركات، فجاء هديرها عالياً، وعندما سمعها الميكادو انحنى تحيةً، وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت مرحك ياباني خالص، الآن غزونا أوروبا.

أنا أضرب المثل لأمثال هؤلاء، رجل مجده الشخصي ذاب في مجد الأمة. فهذا واحد ولا يساوي قُلامة ظفر عندنا، لكن لما يضرب المثل للأسد بالكلب يحمرّ أنف الأسد من الغيظ:
ولا تَرِدُ الأسودُ حِياضَ ماءٍ .. .:. .:. .. إذا كان الكلابُ يَلُغْنَ فيهِ

عندنا نماذج مبهرة، لكن المشكلة أن أكثر الأمة لا تعرف هذه النماذج، بسبب العقوق الذي فشى في اجيال المتأخرين للسلف الفاضلين. من هذا الخيط ألتقط الكلام وأدلف إلى ترجمة الإمام البخاري رحمه الله، صاحب الكتاب- الذي أجمع أهل العلم الفاقهين الفاهمين الذين يعرفون ما يقولون- أنه ليس هناك كتاب بعد كتاب الله عز وجل أصحّ ولا أمتن ولا أجود من كتاب الإمام البخاري رحمه الله. وأنا أرجو ألا يتصور من يسمعني أن الدرس علمي لطلبة العلم فقط، لا، هذا الدرس للجميع، وسأحاول إن شاء الله أن أيسّر طرح المادة. لكن أنا أحتاج منك إذا سمعتني ألا تلتفت إلى غيري، أعطني قلبك، أعطني أذنك، ركّز معي، سوف تستفيد إن شاء الله تعالى.





الإمام البخاري اسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، وبردزبه كهكذا ضبطها الأمير أبو نصر بن ماكولا- رحمة الله عليه- وبردزبه هذه في لغة بُخارى، أو اللغة البخارية، تساوي الزّرّاع في اللغة العربية. ولد الإمام البخاري رحمة الله عليه في شوال سنة 194هـ، ووقع له شيء في مطلع حياته وهو صبي صغير، ذلك أنه فقد بصره، وطبعا كل ما سأذكره عن الإمام البخاري صحيح، الكلام الذي سأذكره إسناده صحيح، لأن الإمام الذهبي- رحمة الله عليه- نقل جلّ ترجمة البخاري من كتاب: "شمائل البخاري" لأبي جعفر محمد بن حاتم الوراق الذي كان يكتب للإمام البخاري رحمه الله، فالإمام الذهبي يقول: كل ما أنقله أو جلّ ما أنقله عن البخاري فهو من هذا الكتاب، وغُنجار له كتاب اسمه "تاريخ بخارى" أيضا ذكر فيه شيئا من ترجمة الإمام البخاري رحمة الله تعالى عليه.

وقع للبخاري وهو في بداية حياته صغيرا حدث أنه فقد عينيه، فبكته أمه طويلا، فنامت في ذات يوم بعدما غلبها البكاء على صبيّها، فرأت إبراهيم الخليل عليه السلام في المنام، فقال لها: يا هذه إن الله عز وجل ردّ بصر ولدك إليه من كثرة بكائك، أو قال من كثرة دعائك. (شكّ أحد رواة هذا الخبر وأظنه البلخي كما ذكر الذهبي رحمه الله)، فاستيقظت الأم وإذا ابنها الإمام محمد بن إسماعيل قد ردّ الله تعالى عليه بصره. أمّه هي التي ربّته، وأنا أريد أن أقف قليلا على هذه الجزئية. لماذا ضاع شبابنا؟ ضاع شبابنا باختصار لأن الأمهات تركن أجل مهنة، والتي لا يستطيعها رجال الأرض جميعا حتى لو أرادوا، تركن مهمة تربية النشء، وأصغتْ المرأة المسلمة إلى أعدائها الذين أوهموها أنها صارتْ كالبهيمة، تحمل وتلد وترضع. قالوا لها: لا، أنتِ نصف الكجتمع، نريدك في كل مكان، نريدك قاضية وعمدة ونريدك في كل المجالات. فخرجتْْ المرأة وتركتْ الثغر خالياً، وزاحمتْ الرجال فيما لا تحسنه كثيرا مع الرجال. وهذا الثغر الذي تركته المرأة خالياً، لا يستطيع رجال الأرض أن يملؤوه. فدخل أعداؤنا من الثغر الخالي، كما زحف خالد بن الوليد- في يوم أحد- على المسلمين لما ترك الرماة الجبل، وكانوا حامية المسلمين وظهورهم، وخالفوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: "لا تبرحوا مكانكم ولو رأيت الطير تتخطف العسكر". لكنهم لما رأوا فرار المشركين نزلوا ليحرزوا الغنائم وتركوا الجبل خاليا فدار خالد بن الوليد دورته ودخل من الثغر الخالي فكانت المحنة التي يعرفها أكثركم إن شاء الله تعالى.





أوهموها أنها تلد تحمل وترضع فتساوي البهيمة، فاغترّتْ وخرجتْ، النساء العاملات، تخرج من البيت وتأخذ الولد تغدو به إلى الحضانة وتذهب إلى العمل، الحضانة هذه "جراش" لا أكثر من ذلك، الولد "يجرش" فيه حتى تخرج الأم من العمل وتأخذه، لأنها ليست متفرغة، عهدتْ بتربية الولد إلى غيرها، ولا يُربّي أبداً مثل الأم. ضمّةُ الأم ولدَها إلى صدرها يمدّ جسور الود والرأفة والرحمة بين الولد وبين الأم. هناك أمّهات أخرجن لنا أئمة كبارا، أم الإمام سفيان الثوري- سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله- إمام الحديث والفقه والزهد، ماذا كانت تقول له أمه وهو خارج من الدار؟ تقول له: يا بُني! إذا كتبتَ عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة؟ فإن وجدتَ وإلا فلا تتعنَّ. انظر إلى الأمهات!.. كلام كسبيكة ذهب، جوهر. حين تكتب الحديث، انظر هل أخذتَ شيئا من الحديث إلى واقعك وإلى حياتك أم أنك تكتب فقط؟ هل ترجمتَ ما كتبتَ إلى واقع وتديّنتَ به وتعبّدتَ أم تكتب لمجرد الكتابة؟ إذا كنت فعلا تستفيد مما تكتب وتتدين بما تكتب فأكمل، وإلا فأرحْ نفسك لا تتعنَّ، كل ما تفعله أنك تُقيم حُجج الله عليك، عارف ولا تعمل. قالت لسفيان: يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيكَ بمغزلي. هناك آباء لديهم أموال وابنه يطلب العلم، لا يريد أن ينفق عليه ولا يريد أن يزوّجه مثلا. هذه امرأة تقول له أنا أكفيك بمغزلي، أشتغل بالغزْل وأبيعه وأنفق عليك، أنت فقط قف في هذه الوجهة، فكان سفيان رحمة الله عليه.

نساء عرفن لماذا خُلقن، الدنيا خطوة رجل منكم، قفزة واحدة وتكون في الآخرة، مدة حياتك، ما تقول لربك إذا لقيته؟ تقول ضيّعتُ نسلي؟ يلقى المرءُ ربَّه خائناً؟ لم يعلم ولده ميثاق العبودية الذي أخذه الله على الناس ألا تفعل ما نهاك، وأن تقف على حدود ما أمرك. من يعلم هذا الكلام؟ الأم الواعية، لدينا نماذج من النساء، نماذج مشرّفة، حفصة بنت سيرين أم الهذيل، ظلّتْ ثلاثين سنة لا تخرج من بيتها إلا لضرورة، أي حاجة، لكن تمكث في بيتها، المكث في البيت يصفي القلب، ولا يجعل المرء يتلبس بشرور المجتمع الخارجي، المرأة التي تجلس في بيتها (ملكة متوّجة) لأنها لم تلابس الشر الذي في الخارج، فهذا يعينها على سلامة قلبها، وتسديد رميتها وقصدها.





أذكر الآن في "كتاب الثقات" للعجلي رحمه الله في ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ، كان عنده جارية، ثم باعها. طبعا الحسن بن صالح وعلي بن صالح أخوان، وأمهما والجارية، بيت علم وعبادة، كان الحسن وعلي وأمهما قد قسّموا الليل ثلاثة أقسام، يقوم الحسن الثلث الأول، وعلي يقوم الثلث الثاني، وأمهما تقوم الثلث الأخير، فلما ماتت الأم، اقتسم الحسن وعلي الليل، كل منهما يقوم نصفه، فلما مات علي، قام الحسن بالليل كله. طبعا الجارية في بيت فاضل مثل هذا، تعودت أن تقوم الليل. المهم أن الحسن باع الجارية، فاشتراها أهل بيت، فالجارية- كالعادة- تستيقظ الساعة الواحدة ليلا لتصلي، فاستيقظت وأخذت تنادي على أهل الدار: يا أهل الدار! الصلاةَ الصلاة. قالوا لها: أوَ أذّنَ للفجر؟.. فقالت لهم: ولا تقومون الليل!.. قالوا نعم. الصبح رجعتْ إلى الحسن، قالت: ردّني إليك، فإنك بعتني إلى قوم سوء لا يقومون الليل. فردّها الحسن بن صالح.

بنت سعيد بن المسيب، لما تزوجها أبو وداعة، وهم خارجا ثانيَ يومٍ، قالت: إلى أين؟ قال لها: ذاهب إلى مجلس سعيد. قالت له: اجلس اعلّمك علم سعيد.

بنت الإمام مالك، كان يُقرأ الموطأ على الإمام، مالك ما كان يقرأ على أحد، فمن يريد يقرأ بنفسه أو يأتي بأحد يقرأ له، كانت بنت مالك تجلس خلف الباب، فإذا أخطأ القارئ طرقته عليه، فإن طرقتْ فمعناه أنه غلط، فيقول له مالك: ارجع فإنك أخطأت. قولا واحدا.





نساء!.. حينما تكون المرأة مهتمة بالعلم الشرعي وتحبه، إما قراءة أو سماعا، هذا يورّثها محبة لدينها وانتماء إليه، فلما تعرف أن هذه الأمة لن تنتصر إلا بسلامة نشئها وتعرف لماذا خُلقتْ تبدأ [طريق] النجاة. عندنا ابن عساكر رحمه الله كان له ثمانون شيخة- من ضمن شيوخه-أخذ العلم عنها. أمّ الإمام البخاري ربّتْ الإمام، والورع عند الإمام والزهد وسماحة النفس والخلق فضلا عن العلم كله بسبب تربية هذه الأم الفاضلة، لأن والد الإمام البخاري لما مات- هذا أيضا بركة الأكل الحلال- دعا ابنه الإمام محمد بن إسماعيل قال له: يا بني، تركتُ لك ألفَ ألفِ درهم (مليون درهم) ما أعلم درهماً فيه شُبهة. كيف؟ هل كان والد الإمام البخاري أحد العلماء؟ لا، لكنه كان بصحبة أهل العلم، يحبهم، يمشي معهم، يحضر مجالسهم، كان يحضر مجالس مالك وحماد بن زيد ورأى ابن المبارك وصافحه بكلتا يديه كما قال الإمام البخاري وسنأتي عنه هذه المسألة وسنقف عندها بعض الوقت.

الإمام البخاري- رحمة الله عليه- كعادة الصبية بدأ بحفظ القرآن، أتمّه وهو ابن سبع سنوات، وليس من الحكمة في تعليم الصغار أن نحفظهم شيئا مع القرآن، لا، فليمضِ القرآن أولا، يحفظ القرآن ولا يشتغل لا بحديث ولا بحفظ أي شيء آخر من المتون حتى يتمّ حفظ القرآن أولا.





وهو ابن عشر سنين أو إحدى عشرة سنة حدث له موقف في بلده، كان في بُخارى شيخ كبير الحجم، اسمه الداخلي، فكان الداخلي قاعدا يحدّث، فحدّث عن أبي الزبير عن إبراهيم النخعي، فاعترض البخاري وقال له: إن أبا الزبير لم يحدّث عن إبراهيم. قال له: اسكت يا غلام! (ابن عشر سنين إحدى عشرة سنة) [قال:] اسكت! قال له البخاري: انظر في أصلك. (الأصل هو الكتاب لأن الداخلي كان يحدّث من حفظه) فدخل الداخلي فأخذ الكتاب فوجد أن الأمر كما قال هذا الغلام. قال: كيف قلت يا غلام؟ قال: إنما هو فلان عن فلان. [قال:] أصبت يا غلام!.. وأصلحَ الأصل الذي عنده، قال له محمد ابن أبي حاتم الوراق: ابن كم لما رددتَ على الداخلي؟ قال: كنت ابن إحدى عشرة سنة. أنت تعرف أنه في ذلك الزمان كانت الأسانيد أنساب الكلام، لم يكن أحد يتكلم إلا بإسناد، وكانت تلك هي "موضة" العصر في ذلك الزمان، كل الكلام بإسناد.

طبعا الإمام البخاري- رحمة الله عليه- تجازو شيوخه ألف شيخ، كتب عن كل شيخ أكثر من عشرة آلاف حديث، إذن ما عند البخاري كم حديث؟ أكثر من مليون حديث. بعض الناس سيقول لك كيف؟ هي الأحاديث كم أصلا؟ أقول: كل كلام سواء كان حديثا مرفوعا، أو كان من قول الصحابي، أو من قول التابعين أو تابعيهم، أو كان في السيرة، هذا اسمه حديث، لا يلزم أن تكون أحاديثَ منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم (مرفوعة) ، بل كل كلام يروى بسند كان يسمى حديثاً. فالأحاديث هناك ما هو حديث مرفوع، وحديث موقوف وحديث مقطوع. كل ما يقال فيه (مرفوع) فيعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، الموقوف إلى الصحابة رضي الله عنهم، المقطوع إلى التابعين. أنت نفسك اليوم- لو عندك حافظة- وتنقل أخبار الناس، وكل واحد قال كلمة تقولها بسند من المؤكد سيكون عندك أكثر من مليون، فهذه مسألة عادية. لكن الغريب في المسألة أنهم كانوا يحفظون الأسانيد كما نحفظ نحن (قل هو الله أحد)، لا يختلط لهم إسناد في إسناد ولا كلام في كلام أبدا، هؤلاء طبعا الحَفَظَة، أمثال الإمام البخاري رحمة الله عليه، ابن إحدى عشرة سنة يرد على الداخلي، والداخلي هذا كان كبير الحجم- كما قلت- في بُخارى آنذاك.





حاولتُ أن آخذ نُتفاً من ترجمة الإمام البخاري من كتاب سير أعلام النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله، بحيث أنني رجوتُ أن أقرأ الفقرة أو اللام ثم أعلّق عليه تعليقاً يسيراً حتى نستطيع أن نصل إلى آخر ترجمة البخاري رحمه الله. يقول في ذكر ثناء الناس على البخاري، فنريد أن نبيّن من الذي امتدح البخاري، ستجد أن أكثر الذي امتدحوا البخاري هم شيوخه، لا أقرانه، ولا تلامذته، بل أكثر الذين امتدحوا البخاري رحمه الله هم شيوخ البخاري أنفسهم، وطبعا مدح الشيخ للتلميذ هذا شيء عظيم، لماذا؟ لأن الشيخ فوق، والتلميذ هو الذي يرجو الشيخ، ويرجو أن يعطف الشيخ عليه وليس العكس؛ بمعنى أنه لا وجود لمذلة ولا لحاجة لهذا الشيخ ليثني على تلميذه، لكن التلميذ في حاجة ماسة أن يثني عليه شيخه. يقول أبو عمر سُليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي- ومحمد بن سلام هذا أحد شيوخ البخاري- اقل: لو جئتَ قبلُ لرأيتَ صبيًّا يحفظ سبعين الف حديث. قال- أي سليم بن مجاهد- قال: فخرجتُ في طلبه (في طلب هذا الغلام) حتى لحقته، فقلت له: أنت الذي يقول إنه يحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: "نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرّفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولستُ أروي حديثا من أحاديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم".

هذا عند أي رجل مارس العلم ودرس آلة العلم يعلم أنه أمر في غاية الصعوبة، لأنه ليس مجرد الحديث (السرد)، كلا، فإذا قال عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول لك من هو أبو هريرة وما اسمه وأخباره في الجاهلية وأخباره في الإسلام ومولده ووفاته، يعطيك ترجمة كاملة عن صحابي الحديث أو عن أي راوٍ من الذين رووا هذا الحديث من الصحابة. ولامتن الذي رواه يقدر أن يأتيك بشواهد لهذا المتن من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وطبعا لا يستقل بهذا إلا رجل أوتي من الفهم أعلاه.





يقول محمد بن يوسف: كنت عن ابن أبي رجاء- وابن أبي رجاء البغلاني هو قتيبة بن سعيد وهو أحد شيوخ البخاري وأحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل أيضا- فسُئل عن طلاق السكران، فلما سئل قتيبة عن طلاق السكران نظر فإذا هو يبصر الإمام البخاري رحمه الله، فقال لسائله: هذا أحمد بن حنبل وابن المديني وابن راهويه قد ساقهم الله إليك. وأشار إلى محمد بن إسماعيل البخاري. وكان مذهب الإمام البخاري أن المرء إذا غُلب على عقله حتى لا يذكر ما يحدث به، أنه لا يجوز من أمره شيء؛ وهذا هو المذهب الصحيح الراجح أن المسائل بالنية وما انعقد عليه القلب وليس بمجرد اللفظ، وطبعا أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه كلاهما من العلماء المجتهدين الذين يطلق عليهم العلماء اسم "المجتهد المطلق"، فمذهب أحمد بن حنبل موجود ومشهور، لكن مذهب إسحق بن راهويه اندثر، وطبعا الأئمة ليسوا محصورين في أربعة، وليستْ مذاهب الأئمة في الفقه محصورةً في أربعة فقط، بل هي كثيرة، لكن أصحاب المذاهب الأربعة قاموا بمذاهبهم ونقحوها وقعّدوا القواعد لها، وأتوا بالأدلة على الجزئيات التي قال الأئمة فيها أحكاماً شرعية ..الخ. لكن إسحق بن راهويه نسفه كان يجري في مضمار أحمد في الفقه، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: "لم يعبر إلينا الجسر أحد من خراسان- يعني إلى بغداد- مثل إسحق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فلا زال النظراء يختلفون". يا سلام على الأدب!.. نعم مختلف معك، لا مانع، إذا كانت المسألة مسألة فرعية يسوغ فيها الاختلاف فما لامانع، هذا الفهم نعمة من الله، من الممكن للرجل الكبير الجليل أن يضلّ عن مسألة يعرفها بعض تلاميذه. وفي ترجمة الإمام البخاري قصة حدثتْ مع إسحق بن راهويه- الذي نتكلم عنه الآن- إسحق بن إبراهيم رحمه الله تعالى، جاءه رجل فاستفتاه عن طلاق السكران، فاحتار إسحق ولم يعرف كيف يأتي بالدليل، فكان البخاري جالساً فقال له: لا يقع طلاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله تجاوز لأمتي ما وسوست به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم"، فهذا تكلم بمعزل عن القلب، أي هو غير مريد لما يقول. كما لو قلنا أن رجلا تشاجر مع امرأته أراد أن يقول لها: اخرجي حالا، اغربي عن وجهي، فقال لها: أنتِ طالق. خرجتْ هكذا من لسانه، ما قصدها، ولا كان يريد أن يقولها أصلا، لكن من شدة غضبه قال هذه الكلمة وقلبه بمعزل كامل عن هذا المعنى، هنا لا يقع طلاق. الإمام البخاري- لما قال هذا الكلام- سُرَّ إسحق، وإسحق هذا مجتهد مطلق، ومع ذلك فقد يعزل عنه شيء يدركه بعض تلاميذه. فالمسألة مسألة مواهب واستحضار، والأدلة الجزئية في العلم لا تتناهى، كثيرة جدا، فالأمر كما قال الشافعي رحمه الله: "ما منا من أحد إلا وتعزب عنه سنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، وتعزب عنه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي تغيب عنه. فقتيبة بن سعيد- شيخ البخاري- لما سئل عن مسألة قال للسائل: أبصر!.. جاءك أحمد بن حنبل، إسحق بن راهويه، علي بن المديني. يقول قائل: حسنا! أحمد وإسحق فقهاء من أهل الحديث، وعلي بن المديني هذا، هل كان فقيهاً؟ لا، لكنه من أجل شيوخ البخاري في الحديث، اسمع ما يقول البخاري: " ما استصغرتُ نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي بن المديني". إذن ما الذي حشر علي بن المديني هنا؟ يريد أن يقول له: هذا هو الحديث تصحيحا وتضعيفا، وهذا هو الفقه؛ فإنه لا يجوز لأحد أن يحتج على حكم شرعي بحديث ضعيف، لابد أن يكون الحديث صحيحا. وبعض الناس خرج يقول: إن بدعة صحيح وضعيف هذه الذي ابتدعها الشيخ الألباني- رحمه الله- والأئمة قبل ذلك كانوا يحتجون بالأحاديث الضعيفة. فيقولون: سنن أبي داود فيها ضعيف، النسائي، الترمذي، ابن ماجة فيها ضعيف، يقول لك "باب كذا" ويضع تحته حديثا ضعيفا، فقصة صحيح وضعيف هذه مسألة [محدثة]، فأريد أن أقول ردا على هذا الكلام: يكفي في رد هذا أن الشافعي- رحمه الله- في خمسين مسألة قال: "لو صحّ الحديث لقلت به". حتى أن الحافظ ابن حجر العسقلاني جمع في كتابٍ- لم أرَ الكتاب ولا أعلم بوجوده في أي خزانة من خزانات العالم فيحسب اطلاعي القاصر- لكن الحافظ ابن حجر ذكر اسم الكتاب في فتح الباري شرح صحيح البخاري، واسمه: "المنحة فيما علّق الشافعي الحكم به على الصحة". هذا الشافعي لا كما كان المتكلم يقول إن القدامى لا أحد منهم يقول صحيح وضعيف وأي شيء يأتيه يأخذه، فهذا كذب صريح على الأئمة، ويكفي- كما قلت- كلام الشافعي، فأمامه حديث- كما ترى- قال: لو صحّ لقلتُ به. هذا ما معناه؟ أنه لم يصحّ الحديث عنده فلم يقل به. فحين قال [قتيبة بن سعيد]: علي بن المديني قصد الحديث صحيحا وضعيفا؛ لأن علي بن المديني طبيب العلل في علم الحديث، والبخاري لقي كما ذكرتُ لكم أكثر من ألف شيخ، أجلاّء، فضلاء، كبار، ومع ذلك يقول: ما استصغرتُ نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي بن المديني.





ويقول عبد الله بن سعيد بن جعفر: لما مات أحمد بن حرب النيسابوري ركب محمد وإسحق يشيّعان جنازته- محمد هو البخاري وإسحق بن راهويه شيخ البخاري- فكنتُ اسمع أهل المعرفة بنيسابور ينظرون ويقولون: محمد أفقه من إسحق. (محمد بن إسماعيل أفقه من شيخه إسحق بن راهويه)، وطبعا إسحق بن راهويه في الحديث كالمسمار في الساج، قمة من القمم، حفظاً وجلالةً وإتقاناً، فضلا عن فقهه الذي اشتهر به. يقول عمر بن حفص الأشقر: سمعت عبدان. عبدان هذا لقب لشيخ البخاري، أحد شيوخ البخاري اسمه عبد الله بن عثمان بن جبل هو محدث وأبوه محدث، لقبه عبدان، له كنيتان، كل كنية عبد، أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن، كانت له كنيتان، فقيل عبدان. يقول عبدان: ما رأيت بعيني شابًّا أبصر من هذا. وأشار إلى محمد بن إسماعيل البخاري.

وقال نُعيم بن حماد- وهو أيضا أحد شيوخ البخاري وهو الذي روى البخاري عنه حديث القرد الذي كنا نتكلم عنه قبل قليل، هذا حدث به البخاري عن شيخه نُعيم بن حماد. ونعيم بن حماد فيه كلام من جهة حفظه، ولكنه مُتابع عند أبي بكر الإسماعيلي- قال نعيم بن حماد: محمد بن إسماعيل فقه هذه الأمة. وقال محمد بن يوسف للبخاري: يا أبا عبد الله! انظر في كتبي. [وهو] محمد بن يوسف التنـّيسي الذي يروي عن الليث بن سعد وعن مالك بن أنس، وهو أيضا أحد شيوخ البخاري، قال: يا أبا عبد الله! انظر في كتبي، وأخبرني بما فيه من السقط. قال: نعم. فجعل البخاريَّ مراجعاً لكتبه، وما ذاك إلا لجلالة البخاري عنده، وإلا لا يسمح أي شيخ للتلميذ أن يفعل بكتبه ما شاء؛ لأن قصة الكتاب هذه قصة كبيرة، أي أحد يقترب من الكتاب فهي مشكلة كبيرة جدا لعلنا إن شاء الله في أثناء تضاعيف كلامنا عن الرواة والأحاديث نأتي بأشياء كهذه إن شاء الله.

ويقول محمد بن ابي حاتم الوراق: "اجتمع أصحاب الحديث، فسألوني أن أكلم إسماعيل بن أبي أويس". إسماعيل هذا أحد شيوخ البخاري وابن اخت الإمام مالك بن انس، وإسماعيل كان عسرا في التحديث، فحتى تخرج منه المعلومة يُذلّك، جماعة من أصحاب الحديث يريدون واسطة لإسماعيل بن أبي أويس، فكلّموا الإمام البخاري ليزيدهم قليلا في الحديث، قال: ففعلتُ. (هذا البخاري يقول لما طلبوا مني ذاك فعلتُ) فدعا إسماعيل الجارية وأمرها أن تخرج صرّة دنانير وقال: يا أبا عبد اللهّ فرّقها عليهم. أيضا!.. أزيدهم في الحديث وأعطيهم دنانير أيضا!.. فقلت له (هذا البخاري يقول لشيخه) : "إنما أرادوا الحديث". أي لا يريدون مالاً. قال: "قد أجبتك إلى طلبك بالزيادة (يعني زيادة الحديث) غير أني احب أن يُضمَّ هذا إلى ذاك ليظهر أثرك فيهم". فانظر كيف يرفع الإمام البخاري أي حتى يظهر أثرك فيهم ويعلمون حظوتك عندي.





يقول أحمد بن عبد السلام: ذكرنا قول البخاري لعلي بن المديني "ما استصغرت نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي" فنقلوا هاتين الكلمتين إلى علي بن المديني. فقال علي بن المديني- وهذا شيخ البخاري، كل هذا وما زلنا في شيوخ البخاري- قال: "دعوا هذا- أي اتركوا كلامه- فإن محمدا ما رأى مثل نفسه". هذا كلام عال جدا. يقول محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت أبا عبد الله يقول- أي البخاري- "ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلاّس بحديث، (وعمرو بن علي هذا أيضا من شيوخ البخاري فضلا عن أنه كان ناقداً، فلم يكن راوياً فقط، بل كان من نقاد الحديث وهو من العلماء المتكلمين في الرواة، أي مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والدارقطني وهؤلاء، أي يقول له: فلان ثقة، فلان كذاب، فلان سيء الحفظ، فلان مختلط..الخ، فهو رجل فضلا عن أنه راويا إلا أنه كان مميزا أيضا) فقعد البخاري مع أصخاب عمرو بن علي الفلاس الذين هم من طبقة البخاري، وحدّثوا بحديث، فقال البخاري: لا أعرفه. أي لا أعرف هذا الحديث، فسرّوا بذلك، أي قالوا: جميل! أول مرة نأخذ على البخاري شيئا، حديث لا يعرفه. فذهبوا إلى عمرو بن علي الفلاس يبشرونه، فقال: تصوّر أن الحديث الفلاني اليخاري لا يعرفه!.. قال لهم: "كل حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل فليس بحديث" أريحوا أنفسكم، أي لا تظنوا أنكم اصطدتم أمرا كبيرا جدا، فحين يقول لك البخاري لا أعرف هذا الحديث فاعلم أنه غير موجود، وهذا طبعا فيه شهادة بالحفظ الكامل من مثل عمرو بن علي الفلاس للإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى.

نقل محمد بن حاتم الوراق أيضا عن علي بن حُجر، وعلي بن حجر هذا من شيوخ البخاري أيضا، قال: "اخرجتْ خراسان ثلاثة- أي النخبة الذين لا أحد مثلهم- أبو زرعة الرازي ومحمد بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الدارمي، ومحمد عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم". وطبعا محمد الدارمي أحد شيوخ البخاري أيضا وهو صاحب السنن المشهورة والمعروفة بسنن الدارمي. قال: "وأوردتُ على علي بن حُجر كتاب أبي عبد الله، فلما قرأه قال: كيف خلّفتَ ذلك الكبش؟". أتعرف من الذي كان يلقب البخاري بالكبش أيضا؟ يحيى بن صاعد، ويحيى بن صاعد هذا كان أيضا إماما كبيرا في الحديث، لمّا كان يذكر البخاري ما كان يسميه إلا "الكبش النطاح"، لماذا؟ لأنه إذا نطح أحدا أسقطه أرضا، اي لا يثبت له أحد في المناظرة ولا في المذاكرة. فانظر إلى علي بن حجر كيف لقّبه بالكبش ويحيى بن صاعد أيضا لقبه بذلك.





يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعتُ أبي- أحمد بن حنبل- يقول: "ما أخرجتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل". وطبعا أحمد بن حنبل شيخ البخاري، وبُندار محمد بن بشار، وبندار لقب له، ومعنى بُنْدار أي الميزان، لماذا؟ لأن محمد بن بشار أخذ علم علماء بلده قبل أن يأخذ علم الناس في الخارج فلقّبوه بندارا. فهذا اسمه (لقب) حين تجد في أي حديث سندا قال حدثنا بندار أو عن بندار فهو محمد بن بشار، كغُنْدر مثلا، وغُندر هذا لقب لراوٍ ثقةٍ كبير اسمه محمد بن جعفر، لقبه بغندر ابن جريج (عبد الملك بن عبد العزيز) ابن جريج من طبقة الإمام مالك- رحمة الله على الجميع- فكان محمد بن جعفر يتكلم كل حين فكان يقول له: اسكت يا غندر! وغندر بلغة أهل الحجاز أي المشاغب، فانطلى عليه لقب "غندر"، وهذه ألقاب، وعلماء الحديث لهم كتب في الألقاب كابن مندة وغيره، فكل لقب من ألقاب المحدثين يأتيك باللقب ويقول لك من هذا، وأحيانا قد يترجم له ترجمة خفيفة.

الحقيقة أن ثناء شيوخ البخاري عليه كثير جدا، وأنا حين أقرأ لا أذكر كل شيء، وأترك أشياء كثيرة، إنما أنتقي بعض ما ذكره الإمام الذهبي من ثناء شيوخ البخاري رحمة الله تعالى عليهم. والكلام له تتمة، وكما قلت لكم في بداية الحلقة، ربما تأخذ منا ترجمة البخاري رحمة الله عليه الحلقة القادمة أيضا، حتى نقف على النِّكات التربوية في حياة البخاري رحمة الله تعالى عليه. ولا أريد أن أكلف إخواني شططا، الذين ينتظرون على الهاتف منذ مدة، وسأفسح إن شاء الله المجال لبعض أسئلتهم، وسنكمل إن شاء الله في المرة القادمة بإذنه تعالى، لأن الكلام معنا طويل ولا أريدكم أن تملوا ولا تستعجلوا، نريد أن نرتب لذلك لتستطعموا العلم، ونمشي بشكل صحيح، فنحن نسمع منذ زمن طويل لكلام متناثر. الآن نريد أن نطلب العلم بشكل صحيح، وفي نفس الوقت أريد أن أقول إن بعض الناس سألوا عن العنوان الذي صنعته للحلقة الذي هو "فكّ الوثاق بشرح كتاب الرقاق"، فظنّوه كتاباً لي موجودا في الأسواق، لا، هذا اسم الشرح الذي سأضعه على كتاب الرقاق من صحيح البخاري.





أي نسخة من نسخ صحيح البخاري كافية، فمن يريد أن يتابع معي، وسيرى خيراً كثيرا في هذه المتابعة، يأتي بصحيح البخاري كاملا، إما المتن فقط، وهو الأحاديث المجردة من الشرح، أو المتن والشرح، وأفضل كتاب في شرح البخاري هو "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للإمام (المصري) - وهذه ليست عصبية، أرجو ألا يتصور أحد أنها عصبية- للإمام المصري أحمد بن علي بن حجر العسقلاني رحمة الله عليه، أنفق الحافظ بن حجر خمساً وعشرين سنة من حياته في شرح هذا الكتاب، ربع قرن والحافظ بن حجر العسقلاني يشرح هذا الكتاب، ولذلك نَفَس الحافظ في أول حديث مثله في آخر حديث، وأتى فيه بالعجب العاجب، حتى قيل للشوكاني رحمه الله: ألا تشرح صحيح البخاري!.. فقال: لا هجرة بعد الفتح. أي بعد فتح الباري، طبعا حين أطلق الحديث فهم المستمع ماذا أراد [حين] قال: لا هجرة بعد الفتح. فهذا الشرح نفيس، فبدلا من أن تأتي بصحيح البخاري هكذا ساذجا، أعني خاليا من الشرح، فتكون قد ضربتَ عصفورين بحجر [حين] تأتي بفتح الباري شرح صحيح البخاري، فيكون عندك المتن، وعندك شرح الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله. وأسأل الله تعالى أن يسدد رميتي، وأن يعينني على تيسير هذا الكتاب الجليل وبيان فضله، وأن علماء المسلمين لمّا زكّوه، زكوه بحق لأنه يستحق هذا وزيادة.




الاتصالات في الحلقة:





س1/ امرأة أقسم زوجها أن يتزوج بأخرى عليها، ويريد أن يكفّر.




ج/ المرأة تسأل عن الكفارة، نعم يوجد كفارة، قال صلى الله عليه وصلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأتِ التي هي خير". فكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. والإطعام طبعا من أوسط ما تطعمون أهليكم.




س2/ لنفس المرأة لديها تعب في المعدة يسبب لها التقيؤ مع الصيام.




ج/ بالنسبة لهذه المرأة أسأل الله عز وجل أن يرفع عنها وأن يشفيها، فيحدث لها قيء رغما عنها، وتسأل عن حكم الصيام، طبعا لا شيء في ذلك لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فلا شيء عليه". وكذلك الصلاة طبعا، فالوضوء من القيء مستحب.





س3/ رجل قال لامرأته "أنت طالق" حين استفزته.




ج/ (طلب منه الشيخ أن يتحدث إليه بعد الحلقة ليستفسر منه أكثر)




س4/ رجل يلتزم بالصلاة فترة من الزمن ثم يتكاسل عنها ويريد أن يعرف سبيل الثبات على الهداية.




ج/ الرجل الذي يشتكي من مسألة الالتزام بالصلاة والطاعات ثم يكسل عن الصلاة، هذه المسألة طبعا غير متصورة، الصلاة هي الفارق بين الإسلام والكفر، فلا يوجد شيء اسمه "كسل عن الصلاة" أبدا. الصلاة لا تسقط إلا بالجنون، أو النوم. وطبعا النوم عذر مؤقت، حين يفيق يصلي. المجنون، إذغ كان جنونه متصلا فتسقط منه الصلاة، أما إذا كان جنونه يزول أحيانا ويفيق فيلزم أن يصلي. أنا فقط أريد ألا يعتقد السائل أن مسألة ترك الصلاة مسألة بسيطة أو هينة، لا، حتى لم لم تكن مستطعما للصلاة فقم صلِّ ولا تترك الصلاة.

ويستعان على الالتزام بأشياء، من أهمها الصُّحبة الصالحة الإيجابية؛ لأن الصحبة على ثلاثة أنواع: طرفان ووسط، صحبة أيجابية، صحبة سلبية، (هذان طرفان) وصحبة طيبة نعم لكنها لا تنفع ولا تضر. الصاحب الإيجابي تشعر أنك كلما التقيتَ به ارتقيت إلى أعلى، وآخر سلبيّ يشدك إلى أسفل، وصاحب طيب فعلا لكنه لا يفعل شيئا، تقابله كما لو لم تقابله.

فالصحبة السلبية تنفيها تماما، الصحبة التي لا تضر ولا تنفع لا بأس بها، هي أفضل من جليس السوء، لكن لابد أن تبحث عن الصحبة الإيجابية. حين تسمع عن درس أو خطبة جمعة من أحد من الشيوخ يؤثر في قلبك ويعلي من همّتك، فسافر له لو لم يكن في بلدك، إن قلبك يستحق أن تجوب الأرض تطلب عافيته. فأنت إذا أردت أن تروح عن نفسك تذهب إلى أي مكان وتنطلق، قلبك يستحق أكثر من هذا. مجالس العلم، الأذكار الموظفة، كأذكار الصباح والمساء وغيرها. ولن تستطيع أن تثبت على هذا إلا إذا كان لديك صحبة إيجابية ترفعك إلى أعلى، ونسأل الله جل وعلا أن يقيّض لك الصحبة الصالحة ممن ينفعك.




س5/ امرأة تسأل عن قراءتها القرآن في وسيلة مواصلات فتخاف أن يلحق بقلبها رياء، فتترك القراءة أحيانا خوف ذلك.




[هذه] الأخت تقرأ القرآن خارج البيت، ويأتيها هاجس يقول لها أنت مرائية في عملك، فيحملها ذلك على ترك القراءة. هذا أكبر غلط، ماذا يريد الشيطان أكبر من ذاك؟ يأتي لأهل الديانة ويشككه في العمل حتى يترك العمل، فما هو القصد في النهاية؟ أن تترك الذكر بدعوى أن هذا داخل في الرياء. هذا نوع من الوسواس، اقهري هذا الوسواس واقرئي، ولا تتركي وِرد القرآن، لا تتركي عمل البر أبدا بدعوى أن في هذا رياء.

الإنسان يقرأ القرآن في الخارج، فإذا أحب أن يثني عليه الناس قبل فعل الفعل فهذا هو الرياء، أركب وسيلة من وسائل المواصلات، ومعي المصحف في حقيبتي، فقلت في نفسي: فلأخرج المصحف واقرأ ليعلم هؤلاء الناس أنني متدين. إذا ورد هذا الخاطر على الإنسان فلا يخرج المصحف، لكن لم يكن عندي هذا الخاطر، وأريد أن أقرأ القرآن، بدل أن أمشي هذا الطريق بدون قراءة القرآن، [ما دام] ليس عندي هذا الهاجس، فلأخرج المصحف وأقرأ فورا؛ فهذا هو الضابط بين الرياء والإخلاص.





س6/ رجل يسأل عن حديث و دعاء تثبيت الحفظ




ج/ هذا الحديث معروف، وهو حديث باطل.





س7/ رجل يسأل عن كيفية إتيان المرأة وهي حائض أو نفساء.




الرجل الذي يسأل عما يحق للرجل من امرأته في المباشرة إذا كانت حائضاً أو نفساء: تجنّبْ الفرج، ولك ما دون ذلك، أي ليس علك جناح في أي شيء تفعله إلا القُبل والدُّبر كما نصتْ عليه الأحاديث.





س8/ إمام يصلي بالناس في مسجد يصاب بنزول قطرات من البول كل يومين او ثلاثة بعد الوضوء.




بالنسبة للإمام الراتب الذي يسأل عن سلس البول فنحن نقول إذا كان هذا من باب العذر الدائم له فيأخذ حكم أهل الأعذار، لكن من الواضح أن هذا [يحدث معه] كل يومين أو ثلاثة فحُقَّ له أن يحتاط لنفسه، فلابد أن يدخل الخلاء قبل الفرض بمدة حتى يستطيع مع الحركة أن قطرة البول التي يشهر بها أن يكون قادرا على التخلص منها، ثم يعيد الاستنجاء مرة أخرى ثم يصلي، طالما أنه إمام راتب لابد أن يحتاط ويصلي بالناس صلاة صحيحة، وإن كان من أهل الأعذار فصلاته صحيحة أيضا، والقاعدة تقول: من صحّتْ صلاتُه لنفسه، صحّتْ لغيره.





أخيراً، لدينا دقيقتان او ثلاث، أريد ان أنبّه على بدعة عيد الأم، لا أريد أن أقضي الكلام قبل أن أتحدث عن عيد الأم، طبعا هذا بدعة، والاحتفال به لا يجوز، وأريد ان أقول إن أي إعلانات، سواء كانت في قناة الناس أو كانت في قنوات أخرى، وتتكلم عن عيد الأم، وشراء العباءات لأجل عيد الأم، كل هذا لا يجوز أيضاً؛ لأن كثير من الناس يكلمونني عن وجود بعض المخالفات في الإعلانات أو غيرها في القناة، فأنا أقول يا أخوة: ليس عندي جهاز تلفزيون، ولا أعرف شيئا عن البرامج التي تعرضها القناة، أي أخ- حين يتصل بي- ويسألني عن فتوى من الفتاوى ويقول أناس قالوا كذا وإعلان فيه كذا ونحو ذلك، فإني مباشرة كواجب ونصيحة أبلغ القناة، والحقيقة أنهم دائما يبدون مرونة في التعاون، وأي مخالفات فليس لديهم مانع في رفع هذه المخالفات، لكن بكل أسف أن هذا الأمر لا يُعرض علينا حتى نبدي فيه الرأي، ولو عرضوه علينا لأبدينا فيه الرأي. ونحن نرجو من الأخوة القائمين أن يكثّفوا الجهد ولا يعرضون شيئا على القناة إلا إذا كان مشروعا؛ لأن الناس أصبحتْ تثق بحمد الله في هذه القناة وفي غيرها من القنوات الجادة مثل (قناة الحكمة) الفضائية، ونسأل الله أن يكثّر من سواد هذه القنوات لنعلم الناس دينهم، فأي شيء يعرض على هذه القناة- لا سيما مع ظهورنا وظهور المشايخ الأجلاء- ليعطي نوعاً من المصداقية، فأي شيء يُعرض يقال: لابد أن الشيوخ يعرفون هذا، ولولا أنهم يعرفون هذا ما سمحوا بظهوره. والواقع بخلاف هذا، فأنا إذا وصلني شيء في مخالفة فإني أنبّه عليه، وكذلك المشايخ الفضلاء الأجلاء الذين يظهرون على هذه القناة وعلى غيرها إذا وصلهم شيء أيضا ينبهون عليها أيضا، وليس على رؤوسنا "بطحة" ولا لأحد عندنا أي شيء، ونحن نقول الحق بحمد الله مجردا ولا نخاف في الله لومة لائم، ونسأل الله عز وجل أن يصلح حال المسلمين، واللهَ عز وجل أسأل أن يجعل ما قلناه وما سمعناه زادا إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يمن القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين. وأعتذر عن هذا السعال الذي اضطررت إليه، وأسأل الله أن يعافيني ويعافي مرضى المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

رابط الحلقة فيديو

زهر الفردوس.. ح1- الشيخ الحويني









(..الحلقة الأولى..)




أن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.




فأهلا ومرحبا بكم أيها الأخوة الكرام في أول حلقة من حلقات هذا البرنامج (زهر الفردوس) والذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ميموناً على سامعه وعلى تاليه، وهذا البرنامج ليس له موضوع ثابت، إنما هو الإسلام كلُّه، نتناول من خلاله آيات من كتاب ربنا_ جلَّ ثناؤه_ ومن سنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، نستخرج منها الفوائد والعبر، ذلك حتى ندخل جنة الطاعة التي من لم يدخلها في الدنيا، لم يدخل جنة الآخرة، كما نقل الإمام المحقق (شمس الدين ابن القيم)_ رحمه الله_ عن شيخه، شيخ الإسلام (ابن تيمية)_ رحمه الله_ أنه قال:" إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ألا وهي جنة الطاعة". والطاعة هي ثمرة العبودية، والعبودية أقدمُ ميثاقٍ أخذه الله عزَّ وجلَّ على بني آدم وهم في ظهره قبل أن يخلقهم كما قال تبارك وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِيْ آدَمَ مِنْ ظُهُوْرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىْ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَاْلُوْاْ بَلَىْ شَهِدْنَاْ أَنْ تَقُوْلُوْاْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ إِنَّاْ كُنَّاْ عَنْ هَذَاْ غَاْفِلِيْنَ).





قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لما خلق الله عزّ وجلّ آدم مسح ظهره بيده فاستخرج من ظهره كل نَسَمَةٍ هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال لهم: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى_ أي شهدنا أنك ربنا_ فقال الله عز وجل: أن تقولوا_ أي لئلا تقولوا_ يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).



فهذا أقدم ميثاق_ ميثاق العبودية_ وللعبودية حق، العبد له سيد آمر، إذا أمره أن يفعل الشيء يجب عليه أن يجده حيث أمره، وإن نهاه أن يفعل شيئاً لا يجوز أن يراه حيث نهاه؛ فالطاعة هي ثمرة العبودية. إذن الذي يريد أن يحظى بالفردوس يوم القيامة، عليه أن يدخل هذه الجنة. والذين خلعوا رداء العبودية لم يذوقوا أفضل ما في هذه الدنيا، ألا وهي محبة الله تبارك وتعالى.





ولهذا البرنامج شعار خاص_ بخلاف شعار القناة (وِإِنْ تُطِيْعُوْه ُ تَهْتَدُوْاْ) صلى الله عليه وآله وسلم_ شعار هذا البرامج هو: جدية الطرح وجِدّتُه أيضاً، وأعني بجدية الطرح أن كل كلام ينسب إلى الله جل ثناؤه أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن يكون قائماً على كلامه تبارك وتعالى وعلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، أي (الدليل)، كل مسألةٍ تُعزى إلى الدين يجب أن يقيم القائل عليها دليلاً، فإن لم يكن ثمة دليل فهو العبث بعينه. فجدية الطرح ألا يتكلم المرء من تلقاء نفسه؛ لأن المرء المتكلم إما أن يتكلم بعلم أو يتكلم بهوى، ليس إلا هذا أو ذاك، كما قال الله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوْاْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَاْ يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاْءَهُمْ) فليس إلا وحي وهوى، وقال الله تبارك وتعالى: (فَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَاْ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَاْ وَاتَّبَعَ هَوَاْهُ) فالذكر هي الوحي والهوى هو الهوى، وقال تعالى: (يَاْ دَاْوُدُ إِنَّاْ جَعَلْنَاْكَ خَلِيْفَةً فِيْ الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ الْنَّاْسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَىْ فَيُضِلَّكَ) فليس إلا وحي وهوى، فإن لم يقم المرء كلامه على ساق النص، فلابد أن يكون متبعاً لهواه أو هو مخطئ على كل حال، حتى وإن كان رجلاً فاضلاً، فإن الفاضل قد يخطئ. فالمقصود بجدية الطرح أننا نعيد بهاء الدين مرة أخرى ونعيد بهاء المسألة بأن نقيمها على ساق النص، فما من قول إلا وننصب عليه دليلاً، قواعدنا في هذا هو اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: (وَمَاْ آتَاْكُمُ الْرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَاْ نَهَاْكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوْاْ) وقال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَاْلِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَاْبٌ أَلِيْمٌ).





أراد رجلٌ أن يُحْرم من مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يُحرم من ذي الحليفة_ ميقات أهل المدينة_ فذهب يستشير الإمام مالكاً _ رحمهُ الله_ قال: "إني أريد أن أحرم من المسجد". ولا يريد أن يحرم من الميقات حتى يستفيد ببركة المشي مُحرماً من المسجد إلى الميقات، فقال له مالكٌ_ رحمهُ الله_ "لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة" فقال: "يا أبا عبد الله! وأي فتنة في هذا؟ بضع خطوات أزيدها أرجو بركتها أفتتن بها؟" قال له: "ولِمَ لا؟ ألم تسمع قول الله عز وجل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَاْلِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَاْبٌ أَلِيْمٌ)؟ وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم!". فالله عز وجل أوجب طاعة نبيّه علينا_ صلى الله عليه وآله وسلم_ وحذرنا من مخالفة أمره وجعل علامة الإيمان أن تستمسك بغرزهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تتقدم بين يديه بقول ولا بفعل، والأئمة جميعاً في هذه الجزئية محل اتفاق لم يخالف في هذا أحد مطلقاً من الأئمة المرضيين الذين جعل الله عز وجل لهم لسان صدق في هذه الأمة، والكلمة الشهيرة التي طارت كل مطار، وتداولها الأئمة جيلاً بعد جيل: (إذا صح الحديث فهو مذهبي قلت به أو لم أقل). ولله در القائل وهو يترجم هذه المقالة النفيسة وهذا النَفَس الزكي (إذا صح الحديث فهو مذهبي.. ) حيث قال في أرجوزة له لطيفة وهو يذكر مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة، قال رحمه الله:




وقول أعـــلام الهــدى لا يُعمــلُ

بقولنا مـــــن دون نصٍّ يُقــبــلُ

فيه دلــيل الأخذ بالحــديـــْـثِ

وذاك في القـديمِ والحــــــــــديثِ

قال أبو حنـــــــيفة الإمــامُ

لا ينـبغي لمـــــــــن له إســلامُ

أخــذاً بأقواليَ حتى تُعـــــرضـا

على الحــديث والكــــتاب المرتضى

ومالكٌ إمــــــام دار الهــجرةِ

قال وقـــد أشـار نحو الحـــــجرةِ

كلُّ كلامٍ مـــــــنه ذو قبـــولِ

ومنه مـــــــردود سوى الرســولِ

والشافـــعي قــال إن رأيتــمُ

قولي مخــــــــالفاً لِمَـا رويْتــمُ

من الحديث فاضـــــربوا الجدارا

بقولي المـــــــــخالفَ الأخــبارا

وأحمدٌ قـــــــال لهم لا تكـتبوا

ما قلتُ بل أصــلُ ذاكَ فاطــلبـوا

فانظــرْ ما قالتِ الهداةُ الأربعهْ

واعمــــلْ بـها فإنّ فيها منفعـهْ

لقمعــها لكلّ ذي تعصّــــــــبِ

والمنصــــفونَ يكــتفونَ بالنّبــي





صلى الله عليه وآله وسلم. فجدية الطرح ألا نغادر الدليل حتى وإن سخط الناس، لأننا نعلم أنه حدث تحوّلٌ عظيم على مدار القرون، وأنه ظهرتْ جماعة يتتبعون رُخَص العلماء فيفتون العوامّ بها، ولا أقصد بالرُّخصة الرخصة الشرعية التي قام الدليل على ثبوتها، لا أعني هذا، إنما أعني بالرُّخصة (الزَّلّة) فكل عالم له زلة حتى وإن كان جليلاً فاضلاً، فلا نُهدر مكانته، ولا نتبعه في زلته_ كما يقول أهل العلم_ فالذي يُنجينا من زلات العلماء هو الوقوف عند الدليل.





مثلاً/ قال قائل:"إن المرأة في الغرب إذا أسلمتْ فإننا لا نُشدد_ إذا أرادت أن تتزوج_ في طلب الولي لها" ما حجّته في ذلك؟ فيقول: "لأن هذه المرأة مذ نشأتْ، نشأت حرة_ كما هو معلوم عند الغرب_ حر يفعل ما يريد" البنت أول ما تحيض تتخذ صديقاً، والولد أول ما يحتلم يتخذ صديقة، والأسر هناك متفسخة العُرى ليس لها رباط، فيكون الأب أو الأم تصرخ من الألم والولد مع العشيقة في الحجرة المجاورة، لا يذهب لأبيه ولا يقول له ما بك، وهذا متواتر قد رأيناه بأعيننا وقرأنا عنه كثيراً وسمعنا عنه أكثر.





فيقول إن البنت حرة في الغرب، فإذا أسلمت فاشترطنا عليها الولي ربما تركت الإسلام، عندئذ تتزوج بلا ولي، لماذا؟ لأن بعض العلماء أفتى بجواز أن تتزوج المرأة بلا ولي، فإننا نريد أن نقول إن الإسلام جاء (ليَحكم) لا (ليُحكَم)، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، باطل ، باطل) ثلاث مرات كما في حديث عائشة. وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) والنفي هنا منصبّ على نفي الذات، أي لا نكاح صحيح إلا بولي، فالذي يريد أن يدخل الإسلام يجب أن يعرف معنى كلمة (إسلام) فالإسلام يعني الاستسلام، لك سيد آمر لا يحلّ لك أن تخالف نصاً إذا كان واضحاً صريحاً.




إننا إذا عذرنا الذي تأول، وكان عنده نصوص ظاهرها أعطاه فهماً أن الولي ليس ضرورياً، إذا عذرناه في هذا فلا يجوز أن نحيد عن مذهب الحق وهو مذهب الأئمة الثلاثة، مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم. فالمرأة إذا نكحت بغير إذن الولي نحن نفتي ببطلان نكاحها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.







آخر يقول: "أوصي الذاهبين إلى كوريا ألا يحرموا عليهم لحوم الكلاب، لأن القوم يأكلون الكلاب هناك، وليس عندنا نص يحرمه". إذن وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع ومخلب من الطير)، وهذا الكلب له ناب يأكل به، فهو محرم بدلالة هذا الحديث. عندئذ ننظر إلى كل بلد من البلدان، فهذا البلد يأكلون فيه لحوم الكلاب، إذن لا داعي لتحريم لحوم الكلاب، وهناك تنكح بغير إذن الولي، عندئذ لا داعي أن نجبرها أو نلزمها بالنكاح بإذن الولي والبلد الثالثة ترى.... إذن يصير الإسلام متروكاً في الجملة. لا، ليس هذا من حق العبودية، من يريد أن يدخل الإسلام ويستسلم لرب العالمين فأهلا به وسهلاً، وإلا ما علينا منه شيء. أنا لن أترك كل شيء. كالذين يبيحون الموسيقى، يقول: "القوم هناك لا يستغنون عن الموسيقى غذاء وحياة الروح هناك" عندما أقول له: الموسيقى حرام فيترك الإسلام، فليترك الإسلام، ما معنى أن يدخل واحد النار؟ المطلوب أن يلتزم الناس جميعاً إذا دخلوا في دين الله عز وجل أن يدخلوا في السلم كافة، أن يلتزموا بأحكام الله تبارك وتعالى، أنا لا أسعى وراء إرضاء الناس ولا أنظر إلى أهواء الناس أين هي، لا.







رخصة العالم زلة كبيرة إذا زلّ العالِم، زلّ بزلته عالَم، ولله در سليمان بن طرخان التيمي_ رحمة الله عليه_ أحد التابعين وأحد الأساطين من أهل السنة والجماعة، كان يقول: "إذا أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشرّ كلّه"، وهذه المقالة قالها الإمام أحمد بن حنبل أيضاً_ رحمة الله على الجميع.



إذن شعار هذا البرنامج (جدية الطرح) لا نطرح شيئا إلا إذا أخذنا عليه دليلا، فإن الدليل هو بهاء المسألة، وإن المفتي كلما تحرى إظهار الدليل، كان له أعظم الوقع في نفس مستفتيه. فهذا هو الشقّ الأول من هذا الشعار.







أما الشق الثاني من شعار هذا البرنامج فهو (جِدة الطرح) عندنا (جدية) وعندنا (جِدة) الجدة أي أننا نتناول سنة نبيّنا صلى الله عليه وسلم بطرح جديد؛ لأنه في السنوات الأخيرة ظهرتْ مسألة (تجديد الخطاب الديني) والمقصود بتجديد الخطاب الديني هو أن يواكب العصر، فنحن نقول إن ديننا دين محكم متين وشريعة نبينا الغراء آخر الشرائع، فلابد أن تكون مواكبة لكل جيل وقبيل، لكننا نحتاج إلى غواص ماهر يغوص تحت الألفاظ ثم يخرج لنا بـ (درة)، فهذا هو الجِدّة في الطرح أيضاً، وأريد أن أقول: "بهذا القول نردّ على الذين ردّ عليهم العلماء قديماً_ كابن القيم رحمه الله وغيره_ عندما قالوا: (إن النصوص لا تفي بعُشر ما يحتاجه الناس، والتسعة أعشار في القياس) نقول: هذا قول من لم يجرب كيف يتعامل مع نصوص الشرع"، نستخرج منه عشرات الأحكام، لكن الأمر كما قلت يحتاج إلى غواص ماهر.







مثلا/ عندنا الحافظ العلائي_ رحمه الله_ له كتاب اسمه (نظم الفرائد بذكر ما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد) قرابة خمسمئة صفحة، مع أن حديث ذي اليدين من حديث أبي هريرة في الصحيحين لا يتجاوز خمسة أسطر إلى سبعة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر يوماً فسلم من ركعتين، فلما سلم خرج سرعان الناس_ أسرع الناس خروجا من المسجد_ وفي القوم أبو بكر وعمر فاستند النبي صلى الله عليه وسلم إلى خشبة وهو مغضب، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، فقام رجل في يديه طول_ لهذا كان لقبه ذا اليدين_ فقال يا رسول الله أقصرتِ الصلاة أم نسيتَ؟ قال: ما قصرت وما نسيت. ثم توجه إلى الناس فقال: أَ صَدَقَ ذو اليدين؟ قالوا: أجل يا رسول الله. فصلى ركعتين وسلم ثم سجد للسهو) هذا هو الحديث. الإمام صلاح الدين العلائي استخرج من هذا الحديث عشرات الفوائد التي ملأ بها الكتاب..(جزء غير مسموع بشكل جيد).. يقول: دخلت على شيخي محيي الدين الكفيجي_ هذا أحد علماء العربية المعتبرين الكبار_ قال: فسألني_ المتحدث هو السيوطي_ قال: فسألني فقال: أعرب "زيدٌ قائم". فقلت له: يا أستاذ! ترجعنا إلى زمان الكتاتيب؟ (يعني زيد قائم مبتدأ وخبر) هذا الكلام إنما يُطرح على صبي لا يُطرح على مثل جلال الدين السيوطي صاحب كتاب هامع الهوامع شرح جمع الجوامع، أو صاحب الأشباه والنظائر في علم العربية، فالسيوطي كان معروفاً وكان يعتد بنفسه جدا في علم العربية، فقال له شيخه محيي الدين: في (زيد قائم) مئة وسبعة عشر وجها في العربية، فلم يقم السيوطي من مجلسه حتى أملى عليه شيخه المئة وسبعة عشرا وجهاً، فهذه مسألة تريد غواصاً، فالنص الواحد يمكن أن نخرج منه بعشرات الفوائد، لكنها كما قلت تحتاج إلى رجل له دربة في التعامل مع النص، فهذا هو الذي سأظهره_ إن شاء الله تبارك وتعالى_ في هذا البرنامج في التعامل مع أي نص من كتاب ربنا جل ثناؤه، أو من صحيح سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فشعارنا في هذا البرنامج هو (جدية الطرح وجِدّته أيضا)، ونتناول اليوم إن شاء الله تبارك وتعالى حديثاً مشهوراً عند الجماهير، لكننا سنتناوله بشعار هذا البرنامج، وربما استلفت نظر من يسمعه أو من يراه هذه الطريقةَ الحميدةَ إن شاء الله تبارك وتعالى، وهذا الحديث يرويه قتادة بن دعامة السدوسي عن أبي الصديق الناجي بكر بن عمرو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد رواه عن قتادة ثلاثة، شعبة بن الحجاج_ الإمام الكبير_ أبو بسطام إمام أهل البصرة وحديثه في الصحيحين، ويرويه أيضا هشام الدستوائي، وحديثه في صحيح مسلم، وثالثهم همام بن يحيى وحديثه عند ابن ماجة والإمام أحمد، وأنا أضمّ زوائد كل رواية واسبك الحديث سبكاً واحداً، وهذا الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كان رجل فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفساً، فقال دلّوني على أعلم أهل الأرض، أو قال: فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب، فقال إني قتلت تسعة وتسعين نفساً، ألي توبة؟ فقال له: أبعد تسعة وتسعين نفساً لك توبة؟ فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المئة، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب عالم، فقال له: إني قتلت مئة نفس، ألي توبة؟ قال: ويحك، أو كما في الرواية الأخرى قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً صالحين فاعمل معهم. فخرج الرجل وقد ناء صدره إلى الأرض التي أمره الراهب أن يذهب إليها، فلما نَصَفَ الطريق_ أي وصل إلى منتصفه_ قُبض_ أي مات_ فاختصمتْ فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال إبليس: أنا أولى به، إنه لم يعصني ساعة قط، وقالتْ ملائكة الرحمة: إنه خرج تائباً بقلبه إلى الله جل وعلا. فأرسل الله عز وجل إليهم مَلَكاً، فجعلوه حَكَماً بينهم، فقال لهم: قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، وقال الله عز وجل للأرض، قال لهذه أن تباعدي ولهذه أن تقربي، فقاسوا المسافة بين الأرضين فوجوده أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد فغُفر له فدخل الجنة).







الإمام البخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث في كتاب الأنبياء في ذكر بني إسرائيل، ففهمنا من ( كان رجل ممن كان قبلكم)، أي من بني إسرائيل. وقد روى البزار في سننه بسند لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حدّثوا عن بني إسرائيل فإن فيهمُ العجائب) أمة طال عمرها جداً وأرسل الله عز وجل إليها مئات الأنبياء، مع العمر الطويل ومع ما هو معروف عن بني إسرائيل من مخالفات وملاحاة الأنبياء، تجد كلّ عجيب في هذه الأمة العجيبة.



فهذا رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، أي ارتكب جرماً عظيماً، أول ديوان ينصب يوم القيامة لهذا الجرم، كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم: (أوّل ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء)، هذا أول ديوان_ ديوان الدماء. ولتعظيم الدم، أوجب الله عز وجل الدية على من يقتل خطأ، برغم أن المقتول يمكن أن يكون هو المخطئ والقاتل أبداً ما أخطأ ومع ذلك يسمى "القتل الخطأ" ويدفع الدية ويصوم شهرين متتابعين، لتعظيم الدم. وهذا لم يقتل واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، قتل تسعة وتسعين نفساً.







العلماء_ لعظم هذا الجرم_ تنازعوا، أ للقاتل توبة أم لا؟ في صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير أن أهل الكوفة اختلفوا أ لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ قال: أنا أشفيكم. وذهب إلى البحر_ البحر ابن عباس كما كان يلقب رضي الله عنهما_ وسأله: أ لقاتل المؤمن توبة؟ قال: "ثكلته أمه". أي ليس له توبة. وتلا قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِدًا فَجَزَاْؤُهُ جَهَنَّمُ خَاْلِدًا فِيْهَاْ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاْبًا عَظِيْمًا) فجمع عليه خمس عقوبات، قال ابن عباس: "وهذه من آخر ما نزل ولم ينسخها شيء". وفي الحديث الآخر أنهم "لما سألوا ابن عباس: أ لقاتل المؤمن توبة؟ قال: لا، ثكلته أمه، يجيء المقتول يوم القيامة وقد وضع رأسه على كفه ويجرجر القاتل ويقول: يا رب سل هذا فيمَ قتلني؟". وذهب مذهبَ ابنِ عباس زيدُ بنُ ثابت_ رضي الله عنه_ أيضاً وأنه ليس له توبة. لكن في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن عطية بن يسار أنه كان عند ابن عباس يوماً فجاءه رجل فقال له: يا أبا العباس! إني خطبت امرأة فأبتْ أمُّها أن تُنكحني، أو أبت أن تَنكحني ونكحت رجلاً آخر، فغرت عليها فقتلتها، أ لي توبة؟ فقال له: أمك حية؟ قال له: لا. قال اذهب فتقرب إلى الله عز وجل بما استطعت. قال عطاء بن يسار: فسألت ابن عباس لِمَ سأله عن حياة أمه. فقال: إنني لا أعلم شيئاً يقرب من الله مثل برّ الوالدة. فهاهو ابن عباس كما هو ظاهر من هذه الرواية يرى أنه لو كانت أمه حية فهذا يجبر هذا الذنب الذي فعله.







إذن الجمع بين فتوى ابن عباس في أنه لا توبة له، أو في أن له توبة، فإن هذا يُنَزّل على حسب الحالة، أي: روى يزيد بن هارون عن أبي مالكٍ الأشجعي عن سعد بن عبيدة أن رجلاً جاء ابن عباس، فقال له: أ لقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل، قال سعد بن عبيدة: فقلنا له أ هكذا كنت تفتينا؟ أما كنت تفتينا أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: أجل ولكنني أظنه يريد قتل نفس، قال: فأرسلنا خلفه فكان كذلك. وهذا هو فقه النفس الذي سنتكلم عنه إن شاء الله تعالى بعد قليل.



الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن كل ذنب يُتاب منه، حتى الشرك بالله عز وجلّ، إذا تُبتَ من الشرك قبل الله منك، تترك الشرك إلى التوحيد؛ فليس هناك ذنبٌ لا توبة له، وآيات القرآن المجيد في باب الوعد كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَاْ دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاْءُ) ولا شك أن القتل مما هو دون ذلك، وقال تعالى: (قُلْ يَاْ عِبَاْدِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوْاْ عَلَىْ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوْاْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ) والإسراف هو مجاوزة الحد، أي أن العبد أذنب ثم أذنب ثم أذنب ولا يزال يواصل الذنب بعد الذنب حتى خرج عن الحد وعن القصد، هو مخاطب بهذه الآية. (قُلْ يَاْ عِبَاْدِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوْاْ) أي لم يتركوا ذنباً إلا فعلوه (لاَ تَقْنَطُوْاْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعًا).







وفي الحديث الصحيح_ وهو في الصحيحين_ أن الله عز وجل قال: (عبدي لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا_ أي ملأتَ الأرض بالخطيئات ولم تترك موضعاً إلا عصيت الله فيه_ ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي) لا أبالي لأنه لا أحد يحاسبه (لاَ يَخَاْفُ عُقْبَاْهَاْ) إن الله عز وجل لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، لا يُقال له لِمَ ولا كيف. فهذه أخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ، والوعد من الله لا يتخلف، وهذه آيات محكمات، والذي عليه أهل السنة والجماعة أنها لا تُنسخ لأنها طبعاً من الأخبار، وأن قوله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) هذه الآية مخصوصة، ولا يجوز أن تخصص الآيات والأخبار التي ورد فيها مطلق الوعظ بهذه الآية حتى لا تتعارض النصوص الواردة في قبول الله تبارك وتعالى للعبد إذا أقلع عن الذنب.







فاختلاف العلماء يدل على عظم الجريمة_ جريمة القتل_ وهذا الرجل لم يقتل نفساً، وإنما قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم عرضت له التوبة، سبحان الله! حتى لو كان الذنب عظيماً، بادرْ إلى ربك. يجيئني مثلاً بعض الذين اشتغلوا بالفن ويريد أن يتوب، فيثبطه الشيطان، سواء كانت امرأة أو رجل، وطبعا المرأة أطمّ ، بالذات إذا كانت تمثل أدوار الغرام وما يحدث في الأفلام، فيقول لها: أنتِ احتجبت واستترت وأنت عارية على شرائط الفيديو وعلى السيديهات في البيوت فما عسى أن تفعلي بتوبتك؟ فيثبطها عن التوبة وعن أن تأخذ المسألة بجدية قُدُماً إلى الله عز وجل حتى يرجعها مرة أخرى، فالإنسان إذا أدركه اليأس وفقد كل شيء فإنه يستوي عنده الدر الثمين بالخرز المهين، فلا يلوي على شيء. فنقول: الذنب مهما كان عظيماً_ وهنا كلمة للسلف جميلة أرجو أن تُفهم فهما صحيحاً وأظن أن الذي قالها هو بلال بن سعد أو يحيى بن معاذ، واحد من السلف الكبار_ قال: "ربّ معصية أورثت ذلا وانكسارا ورب طاعة أورثت عزا واستكبارا"، أي من المحن تأتي المنح، ممكن أن يدخل ذنبٌ صاحبَه الجنة، كيف؟ لا يزال خائفاً فيجدّ في العمل لعل الله عز وجل يقبل منه، ويُقيل عثرته، ويغفر زلته، فبعد أن يصل إلى درجة معينة من العمل يدركه الخوف، فيعمل مرة أخرى ويجدّ في العمل، فلا يزال مجدًّا حتى يكون هذا الذنب سببا لدخوله الجنة، ورب طاعة أورثت عزا واستكبارا، رجل مطيع متصدق يقوم الليل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يعلّم الناس، فقد يغتر بعمله هذا فيكون ذلك سببا في خذلانه.







عرضت له التوبة بعدما قتل تسعة وتسعين نفساً، كان يذبحهم ذبح النعاج، والإنسان إذا تعود أن يذبح آدميا، يكون قلبه كأنه قُدّ من حجارة، بل الحجارة يتفجر منها الأنهار، والحجارة تهبط من خشية الله، يكون قلبه أشد من الحجارة. ومع ذلك (عرضت له التوبة) حتى لا ييأس امرؤٌ أبداً من ذنب.







(فقال دلوني على أعلم أهل الأرض) وهذا دلالة على أنه مُسدّد، لماذا؟ لأنه سأل عن أعلم أهل الأرض، والعلم كله سؤال وجواب، وكما قال القائل: "حسن السؤال نصف العلم" فالنصف الثاني هو الجواب عن هذا السؤال. وعلاقة السؤال بالجواب كعلاقة الصوت بالصدى، فيحكون قديماً أن أحد الصبيان خرج إلى الغابة ليصطاد، وأثناء مشيه في الغابة صرخ، فكان لصراخه صدى، فاستمع فإذا صدى، صرخ مرة أخرى، فجاءه الصدى لصرخته، فظن أن ولداً آخر يحاكي صوته، أو أنه يعيبه، فقال: من أنت؟ فرجع له الصوت: من أنت؟ قال: قل لي من أنت. فرجع له الصدى أيضا: قل لي من أنت. فقال: إنك حقاً قبيح. فرجع له الصدى: إنك حقاً قبيح. فاغتاظ، من هذا الذي يعانده؟ أخذ عصا وصار يبحث عن هذا الغلام الذي يعانده، فلم يجد شيئاً، فرجع إلى أمه كاسف البال، قالت: مالك يا بُني؟ أراك كاسف البال. فحكى لها الحكاية، قال هناك ولد يعاندني أقول له من أنت يقول من أنت أقول إنك حقاً قبيح فيقول إنك حقا قبيح، فتبسمتْ الأم وقالت: يا بُني! إنه لم يكن ثمة أحد، إنما هو رجع الصدى، ولو قلت حسناً لسمعت حسناً. لأنه قال إنك حقا قبيح فرجعت له إنك حقا قبيح، ولو قال كلاما حسنا، لسمع كلاماً حسنا. هي العلاقة بين السؤال والجواب كالعلاقة بين الصوت والصدى. فهذا الرجل كان مسدداً عندما سأل هذا السؤال، قال: دلوني على أعلم أهل الأرض. لماذا نحن_ في باب الديانة_ نطلب الدون دائما، فالواحد منا إذا مرض لا يذهب إلى ممارس عام ولا حديث تخرج من كلية الطب، بل أحياناً لا يرضى بمدرّس ولا أستاذ مساعد ولا نحو ذلك، يريد رئيس قسم أو جامعة، أو يريد مخضرماً. لماذا؟ يقول لك: هذا فاهم، هذا سيكشف العلة. اليوم إذا أراد أحد أن يسأل سؤالاً_ أنا أستغرب جدا من كثير من الناس_ يذهب إلى مقيم شعائر في مسجد_ بالذات في مسائل الطلاق_ يقول له: يا مولانا كانت تضايقني قلت لها اذهبي أنت طالق ثلاثاً، لكن كما تعرف لدي أولاد، ماذا أفعل؟ والحكاية والرواية .. و.. فإذا كان مقيم شعائر يمسك بلحيته يقول له هات ثلاثين جنيهاً لصندوق الجامع ولا تعد ما صنعت ثانيةً. فكم أحلوا من فروج محرمة، هذا مقيم شعائر، مهمته أن يرفع الأذان، وقصاراها أن يقف بالقبلة يصلي بالناس، إنما الفتوى.. لا، العلم شيء آخر، شيء مختلف. تدرس الأصول تتعب، فحتى يصير المرء عالماً أو طالب علم نابهٍ ثم يكون علامة بعد ذلك يسف التراب، مسألة من المسائل الأصولية أو الفرعية قد تجعله يضرب برأسه الجدار لا يقدر أن يفهمها، قد يجوب الأرض جيئة وذهاباً يطوف على أهل العلم يُفْهِمونه سطراً واحداً، فالعلم شيء كبير، لأجل هذا كانت جلالة أهل العلم عند الناس_ كما قال القائل_ ملوك بغير تيجان. ما وصلوا إلى هذا إلا بهذه الدرجة.







اليوم حين تَعرِضُ لي مسألة، لماذا أسأل أي احد؟ لماذا لا أتعامل مع ديني كما أتعامل مع بدني، أريد أستاذاً ورئيس قسم ليكشف علي، لأسأل أحد أهل العلم الكبار، أرحل له، أسافر، أنام على الرصيف ما دامت المسألة متعلقة بالحلال والحرام. فهذا الرجل وُفّق حين قال: دلوني على أعلم أهل الأرض. لمن قال هذا الكلام؟ قاله للناس. فدلوه على راهب، فأول درجات المحنة أن من يتزيا بزي الدين يلبس العمامة والقفطان _ لدى الناس_ هو العالم، إذا أرخى لحيته فهو العالم، هذا عند العوام. لهذا حين قال لهم: دلوني على أعلم أهل الأرض، دلوه على راهب، رجل ورع وتقي متجنب للشبهات_ فضلا عن المحرمات طبعا_ لا يكاد يخالط الناس لا يغتاب أحدا، إذن هذا الذي يُفتي. وأكبر مشكلة أن يختلط العالِم بشبيه العالِم، لأن الأزياء تكون واحدة، فهذه أخطر مشكلة، لماذا؟ لأنه سيتصدّر الجهلةُ حينئذٍ، ويحضرني الآن_ في هذه المسألة_ حكاية لطيفة_ في الأصل والشبيه والفرق بينهما_ فقد حكى أبو الفرج في كتاب الأغاني أن ثابت بن جابر_ أحد الشعراء الصعاليك وهو أشهر بلقبه من اسمه_ لقبه (تأبط شراً) ولقبه له قصة ليست في موضوعنا، ذكرتْ الحكاية أن رجلاً من ثقيف كان أهوج يُقال له (أبو وهب) التقى بتأبط شرا فقال له: بِمَ تغلب الرجال يا ثابت؟ وأنا أراك دميماً ضئيلاً! فقال له: باسمي. ساعة ألقى الرجل أقول له أنا تأبط شراً فينخلع قلبه فآخذ منه ما أريد. قال: أ بهذا فقط؟ قال: فقط. ففكر الثقفي قليلاً، ثم قال لتأبط شراً: هل تبيعني اسمك؟ قال هل: بِمَ؟ قال: بحُلّتي_ وكان يلبس حلة جيدة جديدة_ وبكنيتي. وطبعا كانت ثياب تأبط شراً مرقعة مقطعة، لكنه لمح أن هذا الثقفي أهوج، فقال له: اتفقنا، اخلع ثيابك وهاتها. فأخذ الحلة الجيدة ولبسها وأعطاه طِمريه، أنت من اليوم تأبط شراً وأنا أبو وهب. ثم خاطب تأبط شراً زوجة هذا الثقفي فقال لها:







ألا هل أتى الحسناء أن حليلـها تأبـط شراً واكتنيــــتُ أبا وهبِ

وهَبْهُ تســــمّى اسمي وسمانيَ اسمهُ فأين له صبري على معـــظم الخطبِ؟

وأين له بأسٌ كبأسي وسَـــورتي وأين له في كلّ فادحةٍ قـــــلبي؟؟



فهل بمجرد أن لبس ثيابي صار تأبط شراً؟ طبعاً لا، يا بُعد ما بين هذا وذاك! لأن تأبط شراً إنما أخذ قوته من رباطه جأشه ومن قوة قلبه. فهذا الرجل يظن بمجرد أن يلبس العمامة يصبح عالماً، لا.



فدعْ عنك الكتابة لستَ منها ولو لطّختَ وجهكَ بالمِدادِ



ليس كل أحد أمسك قلما وعرف أن يكتب كلمتين صار كاتباً، وليس كل أحد لبس العمامة وأرخى لحيته صار عالماً، لا. فتأبط شراً يقول لها: ليس لأنني أعطيته ملابسي أنه أخذ قلبي وسلامته وقوته، لا، بل سيظل جبانا طوال عمره خائفاً حتى لو قال أنا تأبط شراً فهو الذي سيقع وتنحلّ ركبه، فليس له قلب تأبط شراً.







أريد أن أقول أن مشكلة اختلاط العالم بشبيه العالم هي مشكلة كبيرة يقع فيها كثير من العوام الذين لا يعرفون الفرق بين هذا وذاك، مثل هذا الرجل الذي قال دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على رجل له زي العلماء وله زهد العلماء، ولكن ليس له علم العلماء. المهم أن هذا الراهب الذي دُلّ عليه هذا القاتل، ذهب إليه وقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً أ لي توبة؟ هنا ظهر جهل هذا الراهب، وراح ضحية لسانه، استنكر طبعاً، قال: أ بعد تسعة وتسعين لك توبة؟ خطؤه هذا مزدوج لأنه واهم غير عارف، وقبل أن نذكر الخطأ المزدوج الذي وقع فيه هذا الراهب أبيّنُ طبيعة أهل العبادة، فأهل العبادة يتحرون الحلال، قد يتركون معظم الحلال لشبهة، فضلا عن الحرام، كما قيل_ وينسب إلى أبي حنيفة ولم أقف على السند الذي يُثبت ذلك لكنني سمعت هذا من بعض أهل العلم_ إن أبا حنيفة رحمه الله جاءه رجل فقال: إنه سُرقتْ شاتي. فذهب أبو حنيفة رحمه الله أو صاحب هذه القصة إلى القصاب، رجل يعرف سن الماعز، فقال له: كم أقصى عمر للشاة أو الجدي من السنين؟ قال له مثلا: ست سنوات خمس سنوات عشر سنوات، فحرّم على نفسه أكل لحوم الشاء عشر سنوات في هذه البلد حتى لا يدخل بطنه لحم هذه الشاة ولو كان خطأ.







نعم للإنسان أن يتورع ما شاء، لكن لا يجوز لأحد أن يُفتي بهذا، ورع المتقين لا يُثبت حُكماً. تورعْ لكن موضوع الحلال والحرام موضوع ثانٍ.



فالذي يُتصور أنه يترك كثيراً من الحلال لشبهة، لو جاءه رجل وقال: قتلت إنساناً وأخذت ما معه من المال. مثلا، هل يمكن لهذا أن يحتمل؟ لا يمكن أن يحتمل مطلقاً، لهذا ماذا نقول؟ نقول: إن ورع المتقين لا يُثبت حكما. فهذا الرجل راح ضحية لسانه، بسبب/ أنه أولاً ليس "فقيه النفس"، هذا رجل قاتل، قتل تسعة وتسعين آدمياً، أي لو ذبح أيضا تسعة وتسعين لن يهتزّ له رمش ولن يهتز له طرف، فكان من المفروض أن يكون عاقلاً ويُداري، يقول مثلاً دعني أراجع، دعني أسأل، لكن لا يقول له هكذا: بعد تسعة وتسعين نفساً لك توبة؟.. ذلك الرجل انتضى سيفه وقتله وأكمل به المئة، هذا أول خطأ أخطأ فيه هذا الراهب. الخطأ الثاني الذي أخطأ فيه هذا الراهب/ أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يُفتي فيه.







إذن قلنا إن هذا الراهب ليس بحكيم، ليس بفقيه النفس، وفقه النفس يُولد المرء به، ولكنه يزداد مع مُلابسة المرء للخلق، وفتوى العالِم الذي يُلابس الناس، تختلف كثيراً عن فتوى العالِم حبيس المكتبة الذي لا يُخالط الناس، فترى على فتوى العالِم الذي يخالط الناس من البهاء في تنزيل النص على الواقعة ما لا تراه على قول العالِم حبيس المكتبة.



أحيانا يأتيني الرجل فيقول: أنا امرأتي تسبني بأقذع الألفاظ وتبصق في وجهي وتضربني_ حقا والله بعض الناس قالوا لي هذا_ ومرة واحدة أمسكت السكين لزوجها، وكانت تعمل، يقول لها اتركي العمل، تقول: أبداً طلاقي في مقابل تركي للعمل، يأتي يسألني: ما رأيك يا مولانا أطلقها أم لا؟ أقول له: يا بُني لماذا تطلقها؟ أ ليس لديك أولاد؟ يا أخي عِشْ والصابرون على خير ومن هذا الكلام. لأن من يسأل هذا السؤال بعد هذه "البهدلة" التي ذكرتها هذا لا ينفع أن أقول له: طلقها، لأنه لن يستطيع أن يطلقها، فهذا الرجل يعيش، لكنه يريدك أن تطمئنه، وإلا فأي رجل تسري دماء الرجولة في عروقه لن يحتمل هذا، تبصق في وجهه وتضربه، وتقول له إن كنت رجلا، وأبوك خلف رجلا طلقني، ومن هذا الكلام، فهذا لن يأتيني أصلاً بل سينهي الموضوع خارجاً. لكن معنى أن يأتي الرجل ويقول كل هذه المصائب ثم يقول ما رأيك أطلقها أم لا، أنا هكذا فهمت أن هذا الرجل أعجز من أن يتخذ قراراً بطلاق المرأة لأي سبب من الأسباب، فأنا أصبّره، يقول: يا عمي الشيخ هل ترى لي ثوابا لو عشت معها هكذا؟ ألهمك الله الصبر يا بُني أسأل الله أن يُثيبك.







أريد أن أقول أن فقه النفس تنزيل النص على واقع المستفتي تنزيلاً صحيحاً بالضوابط الشرعية طبعاً، هذا يسميه العلماء فقه النفس. فهذا لأنه راهب متعبد ليس له علاقة بالفتوى، ليس له علاقة بالناس، إن كره منهم خُلقاً تجنبهم، فبالتالي ليس عنده هذه الموهبة، مباشرةً قال له: تسعة وتسعين قتلتهم اخرج من هنا، فانتضى سيفه وأكمل به المئة.



ثم عرضت له التوبة مرة أخرى وهذا من لطف الله بعبده، حتى لا ييأس إنسان قط مهما كان ذنبه عظيماً، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض، أو سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب عالِم. الراهب الأول قلنا إنه أخطأ لسببين، السبب الأول أنه ليس فقيه النفس، يعامل مجرما، لن يصعب عليه أن يقتل آخر مع التسعة والتسعين. الخطأ الآخر أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يُفتي فيه لأن ليس من حق إنسان على وجه الأرض_ حاشا الأنبياء_ أن يقول لآخر لك توبة أو ليس لك توبة، فهذه ليست من صلاحية أي عالِم، هي من صلاحيات الأنبياء فقط. الذين يكلمهم الله تبارك وتعالى ولا ينقلون أبداً هوى أنفسهم في الكلام، إنما ينقلون عن الله تبارك وتعالى. هؤلاء يمكنهم أن يقولوا لك توبة أو ليس لك توبة، فقط. أما أي عالِم آخر مهما جلّ فلا يحلّ له أن يقول لإنسان لك توبة أو ليس لك توبة، لأن هذه كلمة عظيمة، لو تجرأ المرء ودخل على هذه المنطقة ممكن أن يحبط عمله كلّه. ففي صحيح البخاري من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل لأخيه والله لا يغفر الله لك. فقال الله عز وجلّ: من ذا الذي يتألّى علي_ أي يحلف علي من الإيلاء وهو الحلف كما قال تعالى {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُوْنَ مِنْ نِسَاْئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرِ} يؤلون أي يحلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر_ من ذا الذي يتألى علي غفرت له وأحبطتُ علمك. وفي الرواية الأخرى قال الله عز وجل لنبي هذا الرجل قال: مره فليستأنف العمل. أي كل عمله الذي فات حبط وانتهى وذهب، يبدأ بالعمل من جديد كما لو كان مولوداً الآن، هذا كله بسبب كلمة تورط فيها إنسان فقالها. وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند قوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان رجلان متواخيان في بني إسرائيل أحدهما مجد والآخر مقصر، فلا يزال المجدّ إذا لقي المقصر يقول له: لا يحل لك أن تفعل كذا وكذا، ويؤنبه ويقرّعه، حتى التقيا مرة فأكثر المجد على المقصر_ من التقريع والتأنيب وأنه لا يحل لك أن تفعل_ فضجّ المقصر وقال: أ بعثك الله علي رقيباً أم جعلك علي حسيباً، خلّني وربي_ أنت مالك؟ خلني وربي ليس لك بي علاقة_ فقال المجدّ: والله لا يغفر الله لك. فقبض الله روحهما وقال للمجد: أ كنت على ما في يدي قادراً أم كنت بي عالماً، خذوه إلى النار. وغفر للمقصر."







كلمة يتورط المرء بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفاً ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت". لهذا كان من مذهب أهل السنة والجماعة، ألا نحكم على معيّنٍ بجنة ولا نار، لا نقول فلان الفلاني من أهل النار، أو فلان الفلاني من أهل الجنة، إلا إذا كان عندنا نصٌّ صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فنحن نحكم بمقتضى هذا النص، كما نقول العشرة المبشرون بالجنة، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى لهم عكاشة بن أسلم الأسدي الذي يدخل الجنة مع سبعين ألف بغير حساب ولا عقاب مثلا، ثابت بن قيس بن الشماس، سعد بن معاذ، من حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أو حكم عليه بالنار، معنا في نص ننقله ونأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما فيما عدا ذلك فلا يجوز لأحد أبداً أن يقول فلان من أهل الجنة ولا فلان من أهل النار.



فهذا الراهب كان جاهلاً، أولا لأنه ليس فقيه النفس، فكان من الممكن أن يتصرف ويحفظ حياته، والشيء الثاني: أفتى فيما ليس من حقه أن يفتي فيه. المهم أن هذا الرجل راح ضحية لسانه وضحية جهله. عرضت التوبة لهذا القاتل مرة أخرى، دلوني على أعلم أهل الأرض أو سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ هذه المرة على راهب عالِم_ هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم_ المرة الأولى التي قال فيها دلوني على أعلم أهل الأرض دلوه على راهب، المرة الثانية دلوه على راهب عالِم .







فدل على راهب عالم، فذهب إليه فقال له: إني قتلتُ مئة نفس أ لي توبة؟ قال: ويحك، أو قال كما في الرواية الأخرى: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوما صالحين فاعمل معهم. انظر إلى الفرق الهائل بين فتوى هذا العالِم وفتوى الأول، الراهب العالم الثاني هذا، جوابه على ثلاثة مقاطع/ قال له: نعم (هذا المقطع الأول) ومن يحجب عنك باب التوبة؟ (هذا المقطع الثاني) اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوما يعملون الصالحات فاعمل معهم.



ألم يكن كافياً المقطع الأول في الإجابة عن هذا السؤال؟ قال: أ لي توبة؟ قال: نعم. انتهى. لكن العالِم ناصح، لا يتم الجواب ولا يتم النصح إلا بتمام هذا الكلام. يقول له نعم لك توبة، من الممكن أن يتورط الرجل ويظل جالساً في البلد التي قتل فيها مئة نفس، فربما يرجع مرة أخرى إلى العصيان كما سنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى. فرأى أنه من تمام النصح أن يكمل له الجواب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال_ كما في حديث أبي هريرة_ (إنما أنا لكم كالوالد يعلمكم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشفق على الأمة من الوالد على الولد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام_ بأبي هو وأمي_ (ما تركتُ شيئا يقربكم من الله يقربكم من الجنة يبعدكم من النار إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئا يباعدكم من الله يباعدكم من الجنة يقربكم من النار إلا نهيتكم عنه). هذا اسمه_ عند العلماء_ جواب الحكيم. وجواب الحكيم لنا معه وقفة في المرة القادمة إن شاء الله تعالى مع ذكر بقية فوائد الحديث.







قلنا إن جواب الراهب العالم اسمه جواب الحكيم، فما هو جواب الحكيم؟ هو أن يُنَــزّلَ الـمُفتي الكلام على مقتضى حال المستفتي، هذا جواب الحكيم، فمن الممكن أن يزيد أكثر من حاجة السائل إذا لمح أن السائل يحتاج إلى مثل هذا؛ فحديث أبي هريرة في السنن _ وهو حديث صحيح_ قال: جاء جماعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أ فنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته" فهل سألوا عن ميتة البحر أم سألوا عن طهارة الماء؟ سألوا عن طهارة الماء ولم يسألوا عن حل الميتة. إذن لماذا زاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حكم ميتة البحر. فهذا اسمه جواب الحكيم. أن يزيد المفتي زيادة في الجواب لا يستغني عنها المستفتي، لأنهم إذا استشكلوا طهورية ماء البحر فاستشكالهم لميتته أولى وأقوى وأظهر، لأن لدينا نص عام بتحريم الميتة كلها (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) والميتة اسم جنس محلى بالألف واللام يشمل كل أنواع الميتة، كل ما مات، كان له روح فمات. والسمك يموت أيضاً فمن الممكن أن يدخل تحت الدليل العام وبعض الصحابة رضي الله عنهم، كأبي عبيدة بن الجراح_ وهو من هو في الفهم والعلم_ أعمل هذا الدليل على عمومه كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال: أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة سيف البحر وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح وأعطانا جراب تمر. تموين هذا الجيش برمته كان جراب تمر. فكان يعطينا في اليوم تمرتين تمرتين، أو تمرة تمرة، فكنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء. حتى إذا فنى التمر أكلنا ورق الشجر، وفي يوم من الأيام رمى لهم البحر بدابة عظيمة يُقال لها العنبر، وكما في الحديث أن شوكة هذا العنبر كانت طويلة جدا لدرجة أن أبا عبيدة بن الجراح أوقف شوكة هذا العنبر وأتى بأعلى جمل وأطول رجل ركب الجمل فمشى تحت هذه الشوكة. إذن فهي ضخمة جداً.







أبو عبيدة بن الجراح حين رأى البحر قد قذف بهذه الحوت على الشاطئ قال: ميتة، لا تأكلوه. لماذا؟ أعمل عموم الميتة_ حرم عليكم الميتة_ رغم أن هذه ميتة البحر، لكنه أجراه على العموم، ثم رجع إلى نفسه وقال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله ونحن مضطرون فكلوا. فصرح لهم من باب الضرورة وليس من باب أنها ميتة. (أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال).



أريد أن أقول: إذا كان مثل أبي عبيدة بن الجراح وهو من هو جلالة وفهما وعلماً استشكل ميتة العنبر وهل يؤكل؟ وأكله من باب الاضطرار، فما بالك في جماعة من الأعراب يصيدون اللؤلؤ كما ورد في بعض الأحاديث في البحر. فلما استشكلوا طهورية ماء البحر فاستشكال ميتة البحر أولى لأن فيها دليل عام بتحريم الميتة في كتاب الله تبارك وتعالى، لهذا أجابهم الرسول عليه الصلاة والسلام بجواب الحكيم، فكان من الممكن أن يقول لهم: نعم، توضؤا بماء البحر. وانتهى الجواب على هذا. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم ذلك، إنما قال: هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته. فزادهم في الجواب زيادة لا يستغني المستفتي عنها.













الاتصالات في هذه الحلقة:







س: سؤال فيما يختص بالعمل في البنوك_ بنك مختص بالعقارات.





ج: بالنسبة للبنك كما عرفه العلماء_ البنوك المعاصرة_ أنه/ مؤسسة تقترض لتُقرض. ليس للبنك عمل إلا هذا، يأخذ أموالا من الناس، يقرضها لآخرين بفائدة، وهذه الفائدة يقسمها بنسبٍ هو يراها بين صاحب رأس المال والمقترض، وطبعاً هذا العمل لاشك في حرمته عند جميع علماء الإسلام هذا هو الربا المباشر بعينه الذي لا يمتري أحد فيه. فكل من اشترك في العملية الربوية فهو داخل في اللعن الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه). فالأخ صاحب السؤال يقول إنه في بنك عقاري، ليس له أي علاقة بالمسألة الربوية، لكنني في الحقيقة كنت أحتاج إلى مزيد من التفصيل، لأن الأخ ذكر المسألة مجملةً، وأرجو منه أن يتصل بي بعد الحلقة مباشرة حتى أستفسر منه عن طريقة عمله حتى أجيبه إجابة صحيحة.







س: سؤال عن الرياء، سؤال عن طفلة لها قد تتبول على سجادة الصلاة فتسأل أ صلاتها صحيحة.





ج: الضابط بين الإخلاص والرياء ضابط يسير، لكن لابد أن نعلم أن الشيطان لا يترك المرء أبداً، ففي كل عمل يتقرب الإنسان فيه إلى الله يكون للشيطان به لـمّـة، لا يتركه أبداً حتى إذا أخلص من تلقاء نفسه ولم يكن يخطر بباله مطلقاً أن يُرائي الناس يقول له: لا، بل أنت تُرائي. ولهذا السبب نقول: امضِ ولا تلتفت. فقصة أصحاب الغار الذي انطبقت عليهم الصخرة، وكل واحد منهم نظر في عمله كله فاختار هذا العمل، أنا لا أظن أن الرجل جعل يتأنق وينظر حتى يقول لا بل هذا، فيختار من عمله. لا. إذا قصد المرء وجه الله عز وجل بالعمل فهذه هي النية. ولهذا نقول: إن للشيطان نزغات في العمل، وأرجو أن المكلف يكون قوي القلب قوي الجَـنان، وإلا فإن الشيطان يصطاده. فأقول للأخت الفاضلة التي سألت هذا السؤال: هذه الوساوس ينبغي أن تُطرح ولا يُلتفت إليها، لأن هذا مبدأ وسواس يشك فيه المرء بكل شيء في حياته، فأول ما يتوقف يصطاده الشيطان. فأقول ما قال القائل لعمر بن عبد العزيز قال له امض ولا تلتفت.



أما بالنسبة للبنت الصغيرة إذا تبولت على سجادة أو شيء من هذا وجفّ وهي لا تعلم موضع البول أين هو، فلا شيء عليها، لكن أنصحها أن تلقي ثوباً ولا تصلي على السجادة [مباشرة] وإنما لو ألقت ثوباً طاهراً على السجادة وصلّتْ عليه تكون قد خرجت من هذه المسألة.







س: سؤال عن عمل المحاسب في شركة سياحية مختص بتسليم الرواتب وما شابه دون تدخل في شراء الخمور للسياح أو نحو ذلك.





ج: لاشيء فيه.







س: سؤال عن الديون، سؤال عن الفتور في القلب.





ج: بالنسبة للسؤال الأول ومسألة الدين، فالدين شيء عظيم جداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أناني جبريل فقال لي: "يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". وفي الحديث الآخر عند النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مات ميت يسأل: أعليه دين؟ فإن كان عليه دين قال: صلّوا على صاحبكم وإلا صلّى عليه_ صلى الله عليه وسلم_ وفي مرة من المرات جاءت جنازة فسأل: أعليه دين؟ قالوا عليه درهمان. فقال: صلوا على صاحبكم. فبعض الصحابة تطوع وقال: أنا أقضي عنه هذا الدين يا رسول الله وصل عليه، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وبعد يومين لقي الرسولُ صلى الله عليه وسلم الرجلَ فقال: أ قضيت دين صاحبك؟ قال: بعد يا رسول الله. ثم قضى دينه وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه قضى دينه، فقال عليه الصلاة والسلام: الآن برد جلده.



ومعروف أن الدين يحبس صاحبه فلا يدخل الجنة حتى يقضي ما عليه، فالدين مسألة خطيرة كبيرة، فإذا كان هذا الأخ [السائل] بنى أربعة أدوار أقول له أن يبيع هذا البيت أو بعض البيت ويقضي دينه، لأنه لا يضمن أن يُسدّ الدين بعد موته. فقليل من الناس الذي يكترث لسداد الدين بعد موت الميت، ويقول: (الحي أبقى من الميت.. الله يرحمه.. الأولاد محتاجون.. الخ) فيتورط بأنه لا يسد دينه، ولهذا أقول له: الدين خطير جدا وإذا كان بعض الناس سامحوا وأعطوك مهلة ولا زالوا يقرضونك المال فلا بأس بذلك أن أعطوك فسحة، أما الرجل الذي يطالب بدينه فلابد أن يعطى دينه، والآخرون إذا كنت تعلم أن وراءك من سيسد دينك بعدك، فمن الممكن للإنسان أن يكتب وصيته، فإذا كان يعلم من واقع الحال أنه إذا مات ولن يسد أحد دينه بعده فهذا يجب عليه (وجوبا) أن يقضي دينه حتى لو باع كل ما يملك.



السؤال الثاني: الأخت تشتكي من الفتور، والفتور هذا داء عام لأنه مرتبط بالإيمان، والإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. ولاشك أن هذا الفتور في ساحة الدعوة كان سببا أيضاً في فتور كثير من الأخوة والأخوات بسبب قلة اختلافهم إلى المساجد أو دروس العلم ونحو ذلك. فينبغي لهذه الأخت أن يكون لها حاشية فتتواصى على فعل شيء من الطاعات. ففي كتاب البيعة للإمام النسائي رحمة الله عليه قال: البيعة على الصلوات الخمس. فمن الممكن أن يحصل بيننا نوع من التواصي على فعل الخير، الاجتماع على كتاب من الكتب، الاجتماع على كتاب ربنا تبارك وتعالى نحفظ منه ونقرأ في تفسيره ونتفقه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا واجب على المسلم والمسلمة في الجملة إذا أراد أن يخرج من مسألة الفتور هذه. كل شيء الآن مثير للإحباط الحالة العامة التي يعيش المسلمون فيها الآن مثيرة للإحباط، الحالة الخاصة التي يعيشها المرء مثيرة للإحباط، لا خلاص من هذا إلا بالاجتماع. ثم عليكِ بمطالعة أخبار أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: "معرفة أخبار القوم أحب إليّ من كثير من الفقه" أي معرفة سير الصحابة والتابعين وتابعيهم، لاسيما أهل الصدق والعلم وأهل الزهد والورع من هذه الأمة وهم بحمد الله كثيرون جدا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى مراضيه.







س: سؤال عن المرأة تقيم الصلاة لنفسها. سؤال عن قراءة آية الكرسي دبر الصلاة.





ج: طبعا أذان المرأة لنفسها وإقامتها الصلاة لنفسها هذا كله داخل في باب المستحبات، يعني إذا صلت المرأة بلا أذان ولا إقامة فلا شيء عليها. أما بالنسبة للحديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) فهذا الحديث قواه شيخنا أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى.







س: من العالم الذي تؤخذ منه الفتوى؟ ومن هو شبيه العالم في هذا الزمان؟





ج: العلم قال الله قال رســـــــــــــــــــــــــوله قال الصحابة ليس خلف فيهِ

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرســــــــول وبين رأي فقيهِ

هذا هو العلم، كتاب الله عز وجلّ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. طبعا بكل أسف مسألة التمييز بين العالم وشبيه العالم في هذا الزمان أصبحت مسألة عسيرة. لماذا؟ لأن الدين لم يعد ظاهرا، قديماً حين كان هناك اهتمام بالعلوم الشرعية والجوانب الشرعية كان أهل العلم معروفون، وطلبة العلم معرفون، وكان لهم صيت، وكان لهم تراجم أيضا، بحيث أن المرء يعرف أن هذا عالم وهذا ليس بعالم. لكن نحن نريد أن نضع ضابطا عاما الآن في زماننا. من عُرف باتّباعه للسنة، وتعظيمه للدليل وهذا قلما يخفى على ناظر أو على سامع فهذا يُستفتى. أما من ليس له شيوخ ولم يجسد ركبتيه لطلب العلم ولا يُعرف عنه تحصيل فهذا الذي ينبغي أن يًتجنب.



وقد قلت قبل ذلك إن هؤلاء الذين لم يدرسوا العلم، أفسدوا الذوق العام، فالكثير من الذين ظهروا على المنابر أو على الفضائيات أو في المجلات أو بعض الإذاعات وهم ليسوا بأهل للفتوى، هؤلاء كما قلت أفسدوا ذوق الجماهير، وهذه المسألة لها جانب سلبي وجانبي إيجابي: الجانب الإيجابي أن الناس يريدون الدين، لأن معنى أن أحد الناس لديه جهل بالعلوم الشرعية، لكن لديه لسان، يعرف كيف يتكلم ويحكي قصة هاهنا وموعظة هاهنا... لكنه جاهل، هذا يكون له أتباع بالألوف أو بالملايين، فالجانب الإيجابي في الموضوع أن الناس كلهم يريدون الدين فاعتبروه إماما. والجانب السلبي أن هؤلاء أفسدوا ذوق الجماهير.



أشبّه هذا: لو أن قوماً يمشون في صحراء واستبد بهم العطش حتى كادت أعناقهم أن تندقّ من العطش، وجدوا بئر ماء آسن (متغير الطعم والرائحة) ورجل يوشك على الموت من العطش ظل يشرب ويشرب، في البداية لم يكن مستطعما للماء لكن مع كثرة الشرب بدأ ذوقه يفسد، تعود على الماء الآسن. عندما تأتيه بماء عذب فرات سلسبيل، يقول لك: هذا الماء غير طيب الطعم. أهذا الماء غير طيب الطعم؟ لا، ولكن:



فمن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجد مراً به الماءَ الزلالا



فسد ذوقه، فبالتالي، فكلما أردت أن تعطي الدين نقياً صافيا لهذا الإنسان يعترض عليك، ويقول لك: لا.. أنت هكذا متشدد. فعندما أريد أن أصحح لهذا الرجل المفاهيم وأصلح له ذوقه فإني سآخذ مرحلة طويلة. فهؤلاء طولوا على الدعاة_ أهل العلم_ الطريق، وظهر أهل العلم في نظر الناس أنهم من المتشددين.



في إحدى المرات جاء رجل يسأل سؤالا يتعلق بحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله، معترضاً على الحديث، ماذا يقول الحديث؟ يقول: إن بنتا تجد ألما في عينيها، وكان زوجها ميتاً وكانت في فترة عدة، فجاءت أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستأذن لابنتها أن تضع كحلاً حتى لا تذهب عينها. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن تستخدم المرأة الكحل، على الرغم من أن المرأة استأذنت لأن عينها تكاد أن تذهب، وفي رواية بإسناد صحيح عند قاسم بن أصبغ في مصنفه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وإن ذهبت عينها". كيف ويقال الضرورات تُبيح المحظورات؟ إنسان تكاد عينها أن تذهب سنضع لها كحلا في فترة العدة أليس بضرورة؟ كيف لا وإن ذهبت عينها؟ فهو لم يفهم هذا ويعتبره نوعاً من التشديد وضد قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".



نقول له: لا، ليست ضد القاعدة. أولا: لأن ذهاب عينها مظنون وليس أمراً قطعياً، فحين تقول الأم: عينها ستذهب، ليس عندها علم يقيني بأن العين ستذهب. ثانيا: توجد أدوية أخرى بخلاف الكحل، فلو تصورنا مثلا أن هذا هو الدواء الوحيد ولا دواء غيره، من الممكن أن نقول "إن الضرورات تبيح المحظورات" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الممكن أن يقول لها: لا بأس أن تستخدم الكحل. لكن توجد أدوية أخرى، المرأة يمكنها أن تعالج عينها. فكيف تذهب لما حرم الله عليها وتستخدمه في زمن العدة ويوجد دواء آخر؟ وقول المرأة بذهاب العين مسألة مظنونة؟ لو قلنا مثل هذا الكلام سيقول لك ناس: هذا تشدد. ويجوز أن تستخدم الكحل حتى في زمن العدة ولا يعرف شيئا عن هذا الحديث أو لا يعطي هذا الحديث اكتراثاً.



العالم يا إخوان يجب أن يدرس أصلين كبيرين؛ الأصل الأول علم أصول الفقه، والأصل الثاني علم أصول الحديث. أما علم أصول الحديث فيصحح له الدليل، وأما علم أصول الفقه فيسدد له الفهم، فلابد قبل أن يتكلم المتكلم أن يعلم صحة دليله، إما أن يعلم صحة الدليل من تلقاء نفسه كأن يكون محدثاً، دارسا لعلوم الحديث دراسة متينة، مطلعا على طرق الحديث، على ألفاظ الحديث، أو على الأقل يقلد غيره من أهل العلم الكبار في مسألة التصحيح والتضعيف لو لم يكن من أهل الحديث. العلم الثاني: علم أصول الفقه، فحتى يستطيع أن يفهم لابد أن يكون ملماً إلماماً جيدا بهذا العلم. يمكنني أن أعرف المتكلم إذا كان دارساً لأصول الفقه أو دارساً لأصول الحديث، أو ليس لديه فكرة عن الاثنين مطلقاً من فتاواه، فهو يتخبط في كثير من الفتاوى على خلاف النص. لهذا نقول: إن أهل العلم الذين شهد لهم أهل العصر بالأهلية، فهؤلاء خذوا عنهم، أما من لا تعرفون تاريخهم ولا تعرفون أين طلبوا العلم ولا كيف طلبوه فاسألوا عنهم أو توقفوا عن السماع لهم.







س: سؤال عن الرجل يحلّفه صاحبه، وعن يمين الطلاق.





ج: مسألة هذا السائل حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: "يمينك على ما صدّقك صاحبك" لكن هذا الكلام يكون في باب المعاريض. المعاريض طبعاً لا يجوز فيها الحلف، لأن اليمين على نية الآخر، لا على نية الحالف. بالذات إذا كانت متعلقة بينهما، فإذا كانت المسألة فيها تعريض لا يحلّ مطلقاً أن يحلف، لأنه إذا حلف صار كاذباً. والحديث صريح: "يمينك على ما صدقك صاحبك" . نعم لك في المعاريض مندوحة أن تتكلم بلا حلف، فيقول لك: تعال كل، وأنت ترى أن الأكل حرام أو فيه شيء من ذلك فقلت: إني صائم. وأنت لست بصائم الصيام الشرعي وهو الامتناع عن الأكل والشرب، فلك أن تقول: إني صائم. فإذا استحلفك وقال لك: احلف بالله أنك صائم، حينئذ لا يجوز لك أن تحلف، لأن الحلف تكون على نية صاحبك وليس على نيتك أنت.



أما بالنسبة لحلف الطلاق فهذه مسألة تعتبر من ألفاظ الكنايات، فإذا حلف أحد بالطلاق فإن المفروض أن الإنسان يستفتي المفتي فيقول هذا الطلاق يقع أو لا يقع، وهذا الكلام بعد مناقشة تصير بين الحالف والمفتي. فإن أجراها مجرى اليمين المحض وما قصد وما خطر على باله (قط) أن يطلق امرأته، فالفتوى عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي المعمول بها في بلادنا وفي بلاد الشام وسائر بلاد الإسلام أنها تصير يميناً. فهو حينئذ لو كان يميناً أو حتى لو كان يميناً صريحا وأقسم بالله عز وجل أو بصفة من صفات الله تبارك وتعالى فهو على الخيار، أي حلف بالله العظيم أو قال: "علي الطلاق_ وقصد أن يجريها يمينا_ ألا آكل هذه الليلة" فهل يظل إلى الصباح لا يأكل مطلقا؟ نقول له: لا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت التي هي خير". إذن في هذه الحالة لا يجب عليه (وجوباً) أن يظلّ إلى آخر الليل لا يطعم ولكن يكفر عن يمينه ثم يطعم، والتكفير عن اليمين إما أن يكون قبل أو يكون بعد والله أعلم.







س: سؤال عن علاقة الرجل بخطيبته بعد أن من الله عليه بالالتزام، وعن تأثر عمل والده في الشرطة بسبب إعفاء لحيته.





ج: بالنسبة للخطبة، فالخطبة وعد بالزواج فقط، ليس لك عليها حقوق وليس عليها لك حقوق، امرأة أجنبية والخاطب إنما أبيح له النظر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي أحرى أن يدوم الود بينكما، فالرجل حين يخطب المرأة يمكن أن يذهب مرة واثنتين وثلاث وأربع وعشر وعشرين، لا يوجد حد معين في السنة لعدد المرات التي يرى الرجل فيها المرأة، لكنه إذا وصل إلى قناعة أن هذه المرأة تصلح أن تكون امرأة له، انتهت الرخصة التي رخصها الشارع للرجل ينظر إلى المرأة الأجنبية فقد عادت المرأة أجنبية كما كانت فلا يجوز أن يراها ولا أن يكلمها في الهاتف ولا ..الخ، إلى أن يعقد عليها العقد الشرعي، أقول هذا الكلام لأن الكثير من الأسئلة التي تصلني بخصوص هذه المسألة هل هناك حد معين لرؤية الخاطب لمخطوبته؟ لا، حتى يصل إلى قناعة، قد تكون من مرة من مرتين من ثلاث من أربع من عشر من عشرين عندها الرخصة الشرعية انتهت وصارت المرأة أجنبية فلا يحل له أن يكلمها فضلاً عن أن يغازلها فضلا عن أن يخرج معها طبعاً. فأنت بالنسبة لك لا يحل لك مطلقا أن تكلمها ولا أن تجالسها فضلا عما كان يحدث بينكما قبل زمان الالتزام.



أما بالنسبة للسؤال الثاني: فإعفاء اللحية (واجب) والواجب عند الجمهور يعني فرض لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أعفوا اللحى وقصوا الشارب وخالفوا المجوس" وفي الرواية الثانية "وخالفوا اليهود والنصارى" ومعروف أن الأمر المجرد عند علماء الأصول الذي لم يحتفّ بقرينة صارفة فإنه يظل على وجوبه، وليس هناك قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب. أما الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها ومن عرضها فهذا حديث كذب لا يصحّ وعليه فلا يجوز لك أن تحلق لحيتك.







س: سؤال عن فتوى للشيخ في قناة الناس عن الرجل يعظ امرأته لتصلي الفروض ثم يطلقها، فما حكم الزوج الذي لا يصلي؟ وما تصنع زوجه معه؟





ج: بالنسبة للفتوى التي أفتيتها على قناة الناس فحين سئلتُ هذا السؤال قلت: إن الرجل إذا سلك كل سبيل، سلك الموعظة وسلك الهجر، وسلك سبيل الضرب ومع ذلك أصرت المرأة على ألا تصلي، قلت له طلقها، واليوم التالي جاء أحدهم من بعض البلاد العربية سأل بعض المشايخ الفضلاء من إخواننا وقال له: يوجد شيخ سأله أحدهم ماذا أصنع إذا كانت امرأتي لا تصلي قال طلقها. طبعا كان جواب الشيخ: لا، بل اصبر عليها ومن هذا الكلام. فبعض الناس حين اتصل بي وحصل لديه نوع من اللبس وظن أن هناك نوع من المعارضة بين جوابي وجواب الشيخ الفاضل جزاه الله خيراً، وأنا أقول لا جواب لكن سؤال السائل ناقص، فالسائل لم ينقل الصورة التي ذكرتها كاملة، لماذا؟ لأن جواب الشيخ_ حفظه الله_ الذي أجاب في هذه المسألة، قال له اصطبر عليها. لكن أنا أقول: إذا وعظها وهجرها وضربها هذا كله ماذا؟ كل هذا صبر عليها، ومع ذلك تصر المرأة على أن تترك الصلاة التي هي الفارق بين الكفر والإيمان، فهذه المرأة لا خير فيها، وكذلك أقول: الرجل الذي لا يصلي ويصر على ترك الصلاة لا خير فيه ومن حق المرأة أن تطلب الطلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة". والمرأة عندما تذهب إلى مفتٍ من المفتين الذين قد يستنكرون مثل هذه الفتوى تقول له: زوجي يضربني ويعلقني من شعري ويجرني في الشارع وأمثال هذا الكلام ولا أقدر على العيش معه، يقول لها تطلقي، لماذا؟ لأن هذا بأس. أو الزوج بخيل لا يطعمها ولا يكسوها ولا يعالجها ومع ذلك يشتمها ويسبها بأقذع الألفاظ، يقول لها يجوز أن تطلقي لأن هذا بأس، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من غير بأس" فأيهما أعظم؟ أن يترك الرجل الفارق بين الكفر والإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وفي الحديث الآخر "بين العبد والكفر الصلاة فمن تركها فقد كفر"، فالمرأة التي تعاشر رجلا مصرا على ترك الصلاة هذه أعظم من نافخ الكير، فنافخ الكير كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: "إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشم منه رائحة منتنة". فالمرأة إذا سألت الطلاق فهي محقة كل الحق في أن تطلب الطلاق حتى لا تعاشر رجلا عقّ ربه تبارك وتعالى وعقّ نبيه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي المسلمين وأن يردهم إلى دينهم رداً جميلا أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.


 

روان- إسلاميات © 2008. Chaotic Soul :: Converted by Randomness