الجمعة، 2 يناير 2009

زهر الفردوس.. ح1- الشيخ الحويني









(..الحلقة الأولى..)




أن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.




فأهلا ومرحبا بكم أيها الأخوة الكرام في أول حلقة من حلقات هذا البرنامج (زهر الفردوس) والذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ميموناً على سامعه وعلى تاليه، وهذا البرنامج ليس له موضوع ثابت، إنما هو الإسلام كلُّه، نتناول من خلاله آيات من كتاب ربنا_ جلَّ ثناؤه_ ومن سنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، نستخرج منها الفوائد والعبر، ذلك حتى ندخل جنة الطاعة التي من لم يدخلها في الدنيا، لم يدخل جنة الآخرة، كما نقل الإمام المحقق (شمس الدين ابن القيم)_ رحمه الله_ عن شيخه، شيخ الإسلام (ابن تيمية)_ رحمه الله_ أنه قال:" إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ألا وهي جنة الطاعة". والطاعة هي ثمرة العبودية، والعبودية أقدمُ ميثاقٍ أخذه الله عزَّ وجلَّ على بني آدم وهم في ظهره قبل أن يخلقهم كما قال تبارك وتعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِيْ آدَمَ مِنْ ظُهُوْرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىْ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَاْلُوْاْ بَلَىْ شَهِدْنَاْ أَنْ تَقُوْلُوْاْ يَوْمَ الْقِيَاْمَةِ إِنَّاْ كُنَّاْ عَنْ هَذَاْ غَاْفِلِيْنَ).





قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لما خلق الله عزّ وجلّ آدم مسح ظهره بيده فاستخرج من ظهره كل نَسَمَةٍ هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال لهم: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى_ أي شهدنا أنك ربنا_ فقال الله عز وجل: أن تقولوا_ أي لئلا تقولوا_ يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).



فهذا أقدم ميثاق_ ميثاق العبودية_ وللعبودية حق، العبد له سيد آمر، إذا أمره أن يفعل الشيء يجب عليه أن يجده حيث أمره، وإن نهاه أن يفعل شيئاً لا يجوز أن يراه حيث نهاه؛ فالطاعة هي ثمرة العبودية. إذن الذي يريد أن يحظى بالفردوس يوم القيامة، عليه أن يدخل هذه الجنة. والذين خلعوا رداء العبودية لم يذوقوا أفضل ما في هذه الدنيا، ألا وهي محبة الله تبارك وتعالى.





ولهذا البرنامج شعار خاص_ بخلاف شعار القناة (وِإِنْ تُطِيْعُوْه ُ تَهْتَدُوْاْ) صلى الله عليه وآله وسلم_ شعار هذا البرامج هو: جدية الطرح وجِدّتُه أيضاً، وأعني بجدية الطرح أن كل كلام ينسب إلى الله جل ثناؤه أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن يكون قائماً على كلامه تبارك وتعالى وعلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، أي (الدليل)، كل مسألةٍ تُعزى إلى الدين يجب أن يقيم القائل عليها دليلاً، فإن لم يكن ثمة دليل فهو العبث بعينه. فجدية الطرح ألا يتكلم المرء من تلقاء نفسه؛ لأن المرء المتكلم إما أن يتكلم بعلم أو يتكلم بهوى، ليس إلا هذا أو ذاك، كما قال الله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوْاْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَاْ يَتَّبِعُوْنَ أَهْوَاْءَهُمْ) فليس إلا وحي وهوى، وقال الله تبارك وتعالى: (فَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَاْ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَاْ وَاتَّبَعَ هَوَاْهُ) فالذكر هي الوحي والهوى هو الهوى، وقال تعالى: (يَاْ دَاْوُدُ إِنَّاْ جَعَلْنَاْكَ خَلِيْفَةً فِيْ الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ الْنَّاْسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَىْ فَيُضِلَّكَ) فليس إلا وحي وهوى، فإن لم يقم المرء كلامه على ساق النص، فلابد أن يكون متبعاً لهواه أو هو مخطئ على كل حال، حتى وإن كان رجلاً فاضلاً، فإن الفاضل قد يخطئ. فالمقصود بجدية الطرح أننا نعيد بهاء الدين مرة أخرى ونعيد بهاء المسألة بأن نقيمها على ساق النص، فما من قول إلا وننصب عليه دليلاً، قواعدنا في هذا هو اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: (وَمَاْ آتَاْكُمُ الْرَّسُوْلُ فَخُذُوْهُ وَمَاْ نَهَاْكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوْاْ) وقال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَاْلِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَاْبٌ أَلِيْمٌ).





أراد رجلٌ أن يُحْرم من مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يُحرم من ذي الحليفة_ ميقات أهل المدينة_ فذهب يستشير الإمام مالكاً _ رحمهُ الله_ قال: "إني أريد أن أحرم من المسجد". ولا يريد أن يحرم من الميقات حتى يستفيد ببركة المشي مُحرماً من المسجد إلى الميقات، فقال له مالكٌ_ رحمهُ الله_ "لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة" فقال: "يا أبا عبد الله! وأي فتنة في هذا؟ بضع خطوات أزيدها أرجو بركتها أفتتن بها؟" قال له: "ولِمَ لا؟ ألم تسمع قول الله عز وجل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِيْنَ يُخَاْلِفُوْنَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيْبَهُمْ عَذَاْبٌ أَلِيْمٌ)؟ وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم!". فالله عز وجل أوجب طاعة نبيّه علينا_ صلى الله عليه وآله وسلم_ وحذرنا من مخالفة أمره وجعل علامة الإيمان أن تستمسك بغرزهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تتقدم بين يديه بقول ولا بفعل، والأئمة جميعاً في هذه الجزئية محل اتفاق لم يخالف في هذا أحد مطلقاً من الأئمة المرضيين الذين جعل الله عز وجل لهم لسان صدق في هذه الأمة، والكلمة الشهيرة التي طارت كل مطار، وتداولها الأئمة جيلاً بعد جيل: (إذا صح الحديث فهو مذهبي قلت به أو لم أقل). ولله در القائل وهو يترجم هذه المقالة النفيسة وهذا النَفَس الزكي (إذا صح الحديث فهو مذهبي.. ) حيث قال في أرجوزة له لطيفة وهو يذكر مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة، قال رحمه الله:




وقول أعـــلام الهــدى لا يُعمــلُ

بقولنا مـــــن دون نصٍّ يُقــبــلُ

فيه دلــيل الأخذ بالحــديـــْـثِ

وذاك في القـديمِ والحــــــــــديثِ

قال أبو حنـــــــيفة الإمــامُ

لا ينـبغي لمـــــــــن له إســلامُ

أخــذاً بأقواليَ حتى تُعـــــرضـا

على الحــديث والكــــتاب المرتضى

ومالكٌ إمــــــام دار الهــجرةِ

قال وقـــد أشـار نحو الحـــــجرةِ

كلُّ كلامٍ مـــــــنه ذو قبـــولِ

ومنه مـــــــردود سوى الرســولِ

والشافـــعي قــال إن رأيتــمُ

قولي مخــــــــالفاً لِمَـا رويْتــمُ

من الحديث فاضـــــربوا الجدارا

بقولي المـــــــــخالفَ الأخــبارا

وأحمدٌ قـــــــال لهم لا تكـتبوا

ما قلتُ بل أصــلُ ذاكَ فاطــلبـوا

فانظــرْ ما قالتِ الهداةُ الأربعهْ

واعمــــلْ بـها فإنّ فيها منفعـهْ

لقمعــها لكلّ ذي تعصّــــــــبِ

والمنصــــفونَ يكــتفونَ بالنّبــي





صلى الله عليه وآله وسلم. فجدية الطرح ألا نغادر الدليل حتى وإن سخط الناس، لأننا نعلم أنه حدث تحوّلٌ عظيم على مدار القرون، وأنه ظهرتْ جماعة يتتبعون رُخَص العلماء فيفتون العوامّ بها، ولا أقصد بالرُّخصة الرخصة الشرعية التي قام الدليل على ثبوتها، لا أعني هذا، إنما أعني بالرُّخصة (الزَّلّة) فكل عالم له زلة حتى وإن كان جليلاً فاضلاً، فلا نُهدر مكانته، ولا نتبعه في زلته_ كما يقول أهل العلم_ فالذي يُنجينا من زلات العلماء هو الوقوف عند الدليل.





مثلاً/ قال قائل:"إن المرأة في الغرب إذا أسلمتْ فإننا لا نُشدد_ إذا أرادت أن تتزوج_ في طلب الولي لها" ما حجّته في ذلك؟ فيقول: "لأن هذه المرأة مذ نشأتْ، نشأت حرة_ كما هو معلوم عند الغرب_ حر يفعل ما يريد" البنت أول ما تحيض تتخذ صديقاً، والولد أول ما يحتلم يتخذ صديقة، والأسر هناك متفسخة العُرى ليس لها رباط، فيكون الأب أو الأم تصرخ من الألم والولد مع العشيقة في الحجرة المجاورة، لا يذهب لأبيه ولا يقول له ما بك، وهذا متواتر قد رأيناه بأعيننا وقرأنا عنه كثيراً وسمعنا عنه أكثر.





فيقول إن البنت حرة في الغرب، فإذا أسلمت فاشترطنا عليها الولي ربما تركت الإسلام، عندئذ تتزوج بلا ولي، لماذا؟ لأن بعض العلماء أفتى بجواز أن تتزوج المرأة بلا ولي، فإننا نريد أن نقول إن الإسلام جاء (ليَحكم) لا (ليُحكَم)، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، باطل ، باطل) ثلاث مرات كما في حديث عائشة. وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) والنفي هنا منصبّ على نفي الذات، أي لا نكاح صحيح إلا بولي، فالذي يريد أن يدخل الإسلام يجب أن يعرف معنى كلمة (إسلام) فالإسلام يعني الاستسلام، لك سيد آمر لا يحلّ لك أن تخالف نصاً إذا كان واضحاً صريحاً.




إننا إذا عذرنا الذي تأول، وكان عنده نصوص ظاهرها أعطاه فهماً أن الولي ليس ضرورياً، إذا عذرناه في هذا فلا يجوز أن نحيد عن مذهب الحق وهو مذهب الأئمة الثلاثة، مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل العلم. فالمرأة إذا نكحت بغير إذن الولي نحن نفتي ببطلان نكاحها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.







آخر يقول: "أوصي الذاهبين إلى كوريا ألا يحرموا عليهم لحوم الكلاب، لأن القوم يأكلون الكلاب هناك، وليس عندنا نص يحرمه". إذن وحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع ومخلب من الطير)، وهذا الكلب له ناب يأكل به، فهو محرم بدلالة هذا الحديث. عندئذ ننظر إلى كل بلد من البلدان، فهذا البلد يأكلون فيه لحوم الكلاب، إذن لا داعي لتحريم لحوم الكلاب، وهناك تنكح بغير إذن الولي، عندئذ لا داعي أن نجبرها أو نلزمها بالنكاح بإذن الولي والبلد الثالثة ترى.... إذن يصير الإسلام متروكاً في الجملة. لا، ليس هذا من حق العبودية، من يريد أن يدخل الإسلام ويستسلم لرب العالمين فأهلا به وسهلاً، وإلا ما علينا منه شيء. أنا لن أترك كل شيء. كالذين يبيحون الموسيقى، يقول: "القوم هناك لا يستغنون عن الموسيقى غذاء وحياة الروح هناك" عندما أقول له: الموسيقى حرام فيترك الإسلام، فليترك الإسلام، ما معنى أن يدخل واحد النار؟ المطلوب أن يلتزم الناس جميعاً إذا دخلوا في دين الله عز وجل أن يدخلوا في السلم كافة، أن يلتزموا بأحكام الله تبارك وتعالى، أنا لا أسعى وراء إرضاء الناس ولا أنظر إلى أهواء الناس أين هي، لا.







رخصة العالم زلة كبيرة إذا زلّ العالِم، زلّ بزلته عالَم، ولله در سليمان بن طرخان التيمي_ رحمة الله عليه_ أحد التابعين وأحد الأساطين من أهل السنة والجماعة، كان يقول: "إذا أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشرّ كلّه"، وهذه المقالة قالها الإمام أحمد بن حنبل أيضاً_ رحمة الله على الجميع.



إذن شعار هذا البرنامج (جدية الطرح) لا نطرح شيئا إلا إذا أخذنا عليه دليلا، فإن الدليل هو بهاء المسألة، وإن المفتي كلما تحرى إظهار الدليل، كان له أعظم الوقع في نفس مستفتيه. فهذا هو الشقّ الأول من هذا الشعار.







أما الشق الثاني من شعار هذا البرنامج فهو (جِدة الطرح) عندنا (جدية) وعندنا (جِدة) الجدة أي أننا نتناول سنة نبيّنا صلى الله عليه وسلم بطرح جديد؛ لأنه في السنوات الأخيرة ظهرتْ مسألة (تجديد الخطاب الديني) والمقصود بتجديد الخطاب الديني هو أن يواكب العصر، فنحن نقول إن ديننا دين محكم متين وشريعة نبينا الغراء آخر الشرائع، فلابد أن تكون مواكبة لكل جيل وقبيل، لكننا نحتاج إلى غواص ماهر يغوص تحت الألفاظ ثم يخرج لنا بـ (درة)، فهذا هو الجِدّة في الطرح أيضاً، وأريد أن أقول: "بهذا القول نردّ على الذين ردّ عليهم العلماء قديماً_ كابن القيم رحمه الله وغيره_ عندما قالوا: (إن النصوص لا تفي بعُشر ما يحتاجه الناس، والتسعة أعشار في القياس) نقول: هذا قول من لم يجرب كيف يتعامل مع نصوص الشرع"، نستخرج منه عشرات الأحكام، لكن الأمر كما قلت يحتاج إلى غواص ماهر.







مثلا/ عندنا الحافظ العلائي_ رحمه الله_ له كتاب اسمه (نظم الفرائد بذكر ما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد) قرابة خمسمئة صفحة، مع أن حديث ذي اليدين من حديث أبي هريرة في الصحيحين لا يتجاوز خمسة أسطر إلى سبعة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر يوماً فسلم من ركعتين، فلما سلم خرج سرعان الناس_ أسرع الناس خروجا من المسجد_ وفي القوم أبو بكر وعمر فاستند النبي صلى الله عليه وسلم إلى خشبة وهو مغضب، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، فقام رجل في يديه طول_ لهذا كان لقبه ذا اليدين_ فقال يا رسول الله أقصرتِ الصلاة أم نسيتَ؟ قال: ما قصرت وما نسيت. ثم توجه إلى الناس فقال: أَ صَدَقَ ذو اليدين؟ قالوا: أجل يا رسول الله. فصلى ركعتين وسلم ثم سجد للسهو) هذا هو الحديث. الإمام صلاح الدين العلائي استخرج من هذا الحديث عشرات الفوائد التي ملأ بها الكتاب..(جزء غير مسموع بشكل جيد).. يقول: دخلت على شيخي محيي الدين الكفيجي_ هذا أحد علماء العربية المعتبرين الكبار_ قال: فسألني_ المتحدث هو السيوطي_ قال: فسألني فقال: أعرب "زيدٌ قائم". فقلت له: يا أستاذ! ترجعنا إلى زمان الكتاتيب؟ (يعني زيد قائم مبتدأ وخبر) هذا الكلام إنما يُطرح على صبي لا يُطرح على مثل جلال الدين السيوطي صاحب كتاب هامع الهوامع شرح جمع الجوامع، أو صاحب الأشباه والنظائر في علم العربية، فالسيوطي كان معروفاً وكان يعتد بنفسه جدا في علم العربية، فقال له شيخه محيي الدين: في (زيد قائم) مئة وسبعة عشر وجها في العربية، فلم يقم السيوطي من مجلسه حتى أملى عليه شيخه المئة وسبعة عشرا وجهاً، فهذه مسألة تريد غواصاً، فالنص الواحد يمكن أن نخرج منه بعشرات الفوائد، لكنها كما قلت تحتاج إلى رجل له دربة في التعامل مع النص، فهذا هو الذي سأظهره_ إن شاء الله تبارك وتعالى_ في هذا البرنامج في التعامل مع أي نص من كتاب ربنا جل ثناؤه، أو من صحيح سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فشعارنا في هذا البرنامج هو (جدية الطرح وجِدّته أيضا)، ونتناول اليوم إن شاء الله تبارك وتعالى حديثاً مشهوراً عند الجماهير، لكننا سنتناوله بشعار هذا البرنامج، وربما استلفت نظر من يسمعه أو من يراه هذه الطريقةَ الحميدةَ إن شاء الله تبارك وتعالى، وهذا الحديث يرويه قتادة بن دعامة السدوسي عن أبي الصديق الناجي بكر بن عمرو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد رواه عن قتادة ثلاثة، شعبة بن الحجاج_ الإمام الكبير_ أبو بسطام إمام أهل البصرة وحديثه في الصحيحين، ويرويه أيضا هشام الدستوائي، وحديثه في صحيح مسلم، وثالثهم همام بن يحيى وحديثه عند ابن ماجة والإمام أحمد، وأنا أضمّ زوائد كل رواية واسبك الحديث سبكاً واحداً، وهذا الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كان رجل فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفساً، فقال دلّوني على أعلم أهل الأرض، أو قال: فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب، فقال إني قتلت تسعة وتسعين نفساً، ألي توبة؟ فقال له: أبعد تسعة وتسعين نفساً لك توبة؟ فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المئة، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب عالم، فقال له: إني قتلت مئة نفس، ألي توبة؟ قال: ويحك، أو كما في الرواية الأخرى قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً صالحين فاعمل معهم. فخرج الرجل وقد ناء صدره إلى الأرض التي أمره الراهب أن يذهب إليها، فلما نَصَفَ الطريق_ أي وصل إلى منتصفه_ قُبض_ أي مات_ فاختصمتْ فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال إبليس: أنا أولى به، إنه لم يعصني ساعة قط، وقالتْ ملائكة الرحمة: إنه خرج تائباً بقلبه إلى الله جل وعلا. فأرسل الله عز وجل إليهم مَلَكاً، فجعلوه حَكَماً بينهم، فقال لهم: قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، وقال الله عز وجل للأرض، قال لهذه أن تباعدي ولهذه أن تقربي، فقاسوا المسافة بين الأرضين فوجوده أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد فغُفر له فدخل الجنة).







الإمام البخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث في كتاب الأنبياء في ذكر بني إسرائيل، ففهمنا من ( كان رجل ممن كان قبلكم)، أي من بني إسرائيل. وقد روى البزار في سننه بسند لا بأس به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حدّثوا عن بني إسرائيل فإن فيهمُ العجائب) أمة طال عمرها جداً وأرسل الله عز وجل إليها مئات الأنبياء، مع العمر الطويل ومع ما هو معروف عن بني إسرائيل من مخالفات وملاحاة الأنبياء، تجد كلّ عجيب في هذه الأمة العجيبة.



فهذا رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، أي ارتكب جرماً عظيماً، أول ديوان ينصب يوم القيامة لهذا الجرم، كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم: (أوّل ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء)، هذا أول ديوان_ ديوان الدماء. ولتعظيم الدم، أوجب الله عز وجل الدية على من يقتل خطأ، برغم أن المقتول يمكن أن يكون هو المخطئ والقاتل أبداً ما أخطأ ومع ذلك يسمى "القتل الخطأ" ويدفع الدية ويصوم شهرين متتابعين، لتعظيم الدم. وهذا لم يقتل واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، قتل تسعة وتسعين نفساً.







العلماء_ لعظم هذا الجرم_ تنازعوا، أ للقاتل توبة أم لا؟ في صحيح البخاري من حديث سعيد بن جبير أن أهل الكوفة اختلفوا أ لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ قال: أنا أشفيكم. وذهب إلى البحر_ البحر ابن عباس كما كان يلقب رضي الله عنهما_ وسأله: أ لقاتل المؤمن توبة؟ قال: "ثكلته أمه". أي ليس له توبة. وتلا قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِدًا فَجَزَاْؤُهُ جَهَنَّمُ خَاْلِدًا فِيْهَاْ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاْبًا عَظِيْمًا) فجمع عليه خمس عقوبات، قال ابن عباس: "وهذه من آخر ما نزل ولم ينسخها شيء". وفي الحديث الآخر أنهم "لما سألوا ابن عباس: أ لقاتل المؤمن توبة؟ قال: لا، ثكلته أمه، يجيء المقتول يوم القيامة وقد وضع رأسه على كفه ويجرجر القاتل ويقول: يا رب سل هذا فيمَ قتلني؟". وذهب مذهبَ ابنِ عباس زيدُ بنُ ثابت_ رضي الله عنه_ أيضاً وأنه ليس له توبة. لكن في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن عطية بن يسار أنه كان عند ابن عباس يوماً فجاءه رجل فقال له: يا أبا العباس! إني خطبت امرأة فأبتْ أمُّها أن تُنكحني، أو أبت أن تَنكحني ونكحت رجلاً آخر، فغرت عليها فقتلتها، أ لي توبة؟ فقال له: أمك حية؟ قال له: لا. قال اذهب فتقرب إلى الله عز وجل بما استطعت. قال عطاء بن يسار: فسألت ابن عباس لِمَ سأله عن حياة أمه. فقال: إنني لا أعلم شيئاً يقرب من الله مثل برّ الوالدة. فهاهو ابن عباس كما هو ظاهر من هذه الرواية يرى أنه لو كانت أمه حية فهذا يجبر هذا الذنب الذي فعله.







إذن الجمع بين فتوى ابن عباس في أنه لا توبة له، أو في أن له توبة، فإن هذا يُنَزّل على حسب الحالة، أي: روى يزيد بن هارون عن أبي مالكٍ الأشجعي عن سعد بن عبيدة أن رجلاً جاء ابن عباس، فقال له: أ لقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل، قال سعد بن عبيدة: فقلنا له أ هكذا كنت تفتينا؟ أما كنت تفتينا أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: أجل ولكنني أظنه يريد قتل نفس، قال: فأرسلنا خلفه فكان كذلك. وهذا هو فقه النفس الذي سنتكلم عنه إن شاء الله تعالى بعد قليل.



الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن كل ذنب يُتاب منه، حتى الشرك بالله عز وجلّ، إذا تُبتَ من الشرك قبل الله منك، تترك الشرك إلى التوحيد؛ فليس هناك ذنبٌ لا توبة له، وآيات القرآن المجيد في باب الوعد كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَاْ دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاْءُ) ولا شك أن القتل مما هو دون ذلك، وقال تعالى: (قُلْ يَاْ عِبَاْدِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوْاْ عَلَىْ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوْاْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ) والإسراف هو مجاوزة الحد، أي أن العبد أذنب ثم أذنب ثم أذنب ولا يزال يواصل الذنب بعد الذنب حتى خرج عن الحد وعن القصد، هو مخاطب بهذه الآية. (قُلْ يَاْ عِبَاْدِيَ الَّذِيْنَ أَسْرَفُوْاْ) أي لم يتركوا ذنباً إلا فعلوه (لاَ تَقْنَطُوْاْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعًا).







وفي الحديث الصحيح_ وهو في الصحيحين_ أن الله عز وجل قال: (عبدي لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا_ أي ملأتَ الأرض بالخطيئات ولم تترك موضعاً إلا عصيت الله فيه_ ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي) لا أبالي لأنه لا أحد يحاسبه (لاَ يَخَاْفُ عُقْبَاْهَاْ) إن الله عز وجل لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، لا يُقال له لِمَ ولا كيف. فهذه أخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ، والوعد من الله لا يتخلف، وهذه آيات محكمات، والذي عليه أهل السنة والجماعة أنها لا تُنسخ لأنها طبعاً من الأخبار، وأن قوله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) هذه الآية مخصوصة، ولا يجوز أن تخصص الآيات والأخبار التي ورد فيها مطلق الوعظ بهذه الآية حتى لا تتعارض النصوص الواردة في قبول الله تبارك وتعالى للعبد إذا أقلع عن الذنب.







فاختلاف العلماء يدل على عظم الجريمة_ جريمة القتل_ وهذا الرجل لم يقتل نفساً، وإنما قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم عرضت له التوبة، سبحان الله! حتى لو كان الذنب عظيماً، بادرْ إلى ربك. يجيئني مثلاً بعض الذين اشتغلوا بالفن ويريد أن يتوب، فيثبطه الشيطان، سواء كانت امرأة أو رجل، وطبعا المرأة أطمّ ، بالذات إذا كانت تمثل أدوار الغرام وما يحدث في الأفلام، فيقول لها: أنتِ احتجبت واستترت وأنت عارية على شرائط الفيديو وعلى السيديهات في البيوت فما عسى أن تفعلي بتوبتك؟ فيثبطها عن التوبة وعن أن تأخذ المسألة بجدية قُدُماً إلى الله عز وجل حتى يرجعها مرة أخرى، فالإنسان إذا أدركه اليأس وفقد كل شيء فإنه يستوي عنده الدر الثمين بالخرز المهين، فلا يلوي على شيء. فنقول: الذنب مهما كان عظيماً_ وهنا كلمة للسلف جميلة أرجو أن تُفهم فهما صحيحاً وأظن أن الذي قالها هو بلال بن سعد أو يحيى بن معاذ، واحد من السلف الكبار_ قال: "ربّ معصية أورثت ذلا وانكسارا ورب طاعة أورثت عزا واستكبارا"، أي من المحن تأتي المنح، ممكن أن يدخل ذنبٌ صاحبَه الجنة، كيف؟ لا يزال خائفاً فيجدّ في العمل لعل الله عز وجل يقبل منه، ويُقيل عثرته، ويغفر زلته، فبعد أن يصل إلى درجة معينة من العمل يدركه الخوف، فيعمل مرة أخرى ويجدّ في العمل، فلا يزال مجدًّا حتى يكون هذا الذنب سببا لدخوله الجنة، ورب طاعة أورثت عزا واستكبارا، رجل مطيع متصدق يقوم الليل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يعلّم الناس، فقد يغتر بعمله هذا فيكون ذلك سببا في خذلانه.







عرضت له التوبة بعدما قتل تسعة وتسعين نفساً، كان يذبحهم ذبح النعاج، والإنسان إذا تعود أن يذبح آدميا، يكون قلبه كأنه قُدّ من حجارة، بل الحجارة يتفجر منها الأنهار، والحجارة تهبط من خشية الله، يكون قلبه أشد من الحجارة. ومع ذلك (عرضت له التوبة) حتى لا ييأس امرؤٌ أبداً من ذنب.







(فقال دلوني على أعلم أهل الأرض) وهذا دلالة على أنه مُسدّد، لماذا؟ لأنه سأل عن أعلم أهل الأرض، والعلم كله سؤال وجواب، وكما قال القائل: "حسن السؤال نصف العلم" فالنصف الثاني هو الجواب عن هذا السؤال. وعلاقة السؤال بالجواب كعلاقة الصوت بالصدى، فيحكون قديماً أن أحد الصبيان خرج إلى الغابة ليصطاد، وأثناء مشيه في الغابة صرخ، فكان لصراخه صدى، فاستمع فإذا صدى، صرخ مرة أخرى، فجاءه الصدى لصرخته، فظن أن ولداً آخر يحاكي صوته، أو أنه يعيبه، فقال: من أنت؟ فرجع له الصوت: من أنت؟ قال: قل لي من أنت. فرجع له الصدى أيضا: قل لي من أنت. فقال: إنك حقاً قبيح. فرجع له الصدى: إنك حقاً قبيح. فاغتاظ، من هذا الذي يعانده؟ أخذ عصا وصار يبحث عن هذا الغلام الذي يعانده، فلم يجد شيئاً، فرجع إلى أمه كاسف البال، قالت: مالك يا بُني؟ أراك كاسف البال. فحكى لها الحكاية، قال هناك ولد يعاندني أقول له من أنت يقول من أنت أقول إنك حقاً قبيح فيقول إنك حقا قبيح، فتبسمتْ الأم وقالت: يا بُني! إنه لم يكن ثمة أحد، إنما هو رجع الصدى، ولو قلت حسناً لسمعت حسناً. لأنه قال إنك حقا قبيح فرجعت له إنك حقا قبيح، ولو قال كلاما حسنا، لسمع كلاماً حسنا. هي العلاقة بين السؤال والجواب كالعلاقة بين الصوت والصدى. فهذا الرجل كان مسدداً عندما سأل هذا السؤال، قال: دلوني على أعلم أهل الأرض. لماذا نحن_ في باب الديانة_ نطلب الدون دائما، فالواحد منا إذا مرض لا يذهب إلى ممارس عام ولا حديث تخرج من كلية الطب، بل أحياناً لا يرضى بمدرّس ولا أستاذ مساعد ولا نحو ذلك، يريد رئيس قسم أو جامعة، أو يريد مخضرماً. لماذا؟ يقول لك: هذا فاهم، هذا سيكشف العلة. اليوم إذا أراد أحد أن يسأل سؤالاً_ أنا أستغرب جدا من كثير من الناس_ يذهب إلى مقيم شعائر في مسجد_ بالذات في مسائل الطلاق_ يقول له: يا مولانا كانت تضايقني قلت لها اذهبي أنت طالق ثلاثاً، لكن كما تعرف لدي أولاد، ماذا أفعل؟ والحكاية والرواية .. و.. فإذا كان مقيم شعائر يمسك بلحيته يقول له هات ثلاثين جنيهاً لصندوق الجامع ولا تعد ما صنعت ثانيةً. فكم أحلوا من فروج محرمة، هذا مقيم شعائر، مهمته أن يرفع الأذان، وقصاراها أن يقف بالقبلة يصلي بالناس، إنما الفتوى.. لا، العلم شيء آخر، شيء مختلف. تدرس الأصول تتعب، فحتى يصير المرء عالماً أو طالب علم نابهٍ ثم يكون علامة بعد ذلك يسف التراب، مسألة من المسائل الأصولية أو الفرعية قد تجعله يضرب برأسه الجدار لا يقدر أن يفهمها، قد يجوب الأرض جيئة وذهاباً يطوف على أهل العلم يُفْهِمونه سطراً واحداً، فالعلم شيء كبير، لأجل هذا كانت جلالة أهل العلم عند الناس_ كما قال القائل_ ملوك بغير تيجان. ما وصلوا إلى هذا إلا بهذه الدرجة.







اليوم حين تَعرِضُ لي مسألة، لماذا أسأل أي احد؟ لماذا لا أتعامل مع ديني كما أتعامل مع بدني، أريد أستاذاً ورئيس قسم ليكشف علي، لأسأل أحد أهل العلم الكبار، أرحل له، أسافر، أنام على الرصيف ما دامت المسألة متعلقة بالحلال والحرام. فهذا الرجل وُفّق حين قال: دلوني على أعلم أهل الأرض. لمن قال هذا الكلام؟ قاله للناس. فدلوه على راهب، فأول درجات المحنة أن من يتزيا بزي الدين يلبس العمامة والقفطان _ لدى الناس_ هو العالم، إذا أرخى لحيته فهو العالم، هذا عند العوام. لهذا حين قال لهم: دلوني على أعلم أهل الأرض، دلوه على راهب، رجل ورع وتقي متجنب للشبهات_ فضلا عن المحرمات طبعا_ لا يكاد يخالط الناس لا يغتاب أحدا، إذن هذا الذي يُفتي. وأكبر مشكلة أن يختلط العالِم بشبيه العالِم، لأن الأزياء تكون واحدة، فهذه أخطر مشكلة، لماذا؟ لأنه سيتصدّر الجهلةُ حينئذٍ، ويحضرني الآن_ في هذه المسألة_ حكاية لطيفة_ في الأصل والشبيه والفرق بينهما_ فقد حكى أبو الفرج في كتاب الأغاني أن ثابت بن جابر_ أحد الشعراء الصعاليك وهو أشهر بلقبه من اسمه_ لقبه (تأبط شراً) ولقبه له قصة ليست في موضوعنا، ذكرتْ الحكاية أن رجلاً من ثقيف كان أهوج يُقال له (أبو وهب) التقى بتأبط شرا فقال له: بِمَ تغلب الرجال يا ثابت؟ وأنا أراك دميماً ضئيلاً! فقال له: باسمي. ساعة ألقى الرجل أقول له أنا تأبط شراً فينخلع قلبه فآخذ منه ما أريد. قال: أ بهذا فقط؟ قال: فقط. ففكر الثقفي قليلاً، ثم قال لتأبط شراً: هل تبيعني اسمك؟ قال هل: بِمَ؟ قال: بحُلّتي_ وكان يلبس حلة جيدة جديدة_ وبكنيتي. وطبعا كانت ثياب تأبط شراً مرقعة مقطعة، لكنه لمح أن هذا الثقفي أهوج، فقال له: اتفقنا، اخلع ثيابك وهاتها. فأخذ الحلة الجيدة ولبسها وأعطاه طِمريه، أنت من اليوم تأبط شراً وأنا أبو وهب. ثم خاطب تأبط شراً زوجة هذا الثقفي فقال لها:







ألا هل أتى الحسناء أن حليلـها تأبـط شراً واكتنيــــتُ أبا وهبِ

وهَبْهُ تســــمّى اسمي وسمانيَ اسمهُ فأين له صبري على معـــظم الخطبِ؟

وأين له بأسٌ كبأسي وسَـــورتي وأين له في كلّ فادحةٍ قـــــلبي؟؟



فهل بمجرد أن لبس ثيابي صار تأبط شراً؟ طبعاً لا، يا بُعد ما بين هذا وذاك! لأن تأبط شراً إنما أخذ قوته من رباطه جأشه ومن قوة قلبه. فهذا الرجل يظن بمجرد أن يلبس العمامة يصبح عالماً، لا.



فدعْ عنك الكتابة لستَ منها ولو لطّختَ وجهكَ بالمِدادِ



ليس كل أحد أمسك قلما وعرف أن يكتب كلمتين صار كاتباً، وليس كل أحد لبس العمامة وأرخى لحيته صار عالماً، لا. فتأبط شراً يقول لها: ليس لأنني أعطيته ملابسي أنه أخذ قلبي وسلامته وقوته، لا، بل سيظل جبانا طوال عمره خائفاً حتى لو قال أنا تأبط شراً فهو الذي سيقع وتنحلّ ركبه، فليس له قلب تأبط شراً.







أريد أن أقول أن مشكلة اختلاط العالم بشبيه العالم هي مشكلة كبيرة يقع فيها كثير من العوام الذين لا يعرفون الفرق بين هذا وذاك، مثل هذا الرجل الذي قال دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على رجل له زي العلماء وله زهد العلماء، ولكن ليس له علم العلماء. المهم أن هذا الراهب الذي دُلّ عليه هذا القاتل، ذهب إليه وقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً أ لي توبة؟ هنا ظهر جهل هذا الراهب، وراح ضحية لسانه، استنكر طبعاً، قال: أ بعد تسعة وتسعين لك توبة؟ خطؤه هذا مزدوج لأنه واهم غير عارف، وقبل أن نذكر الخطأ المزدوج الذي وقع فيه هذا الراهب أبيّنُ طبيعة أهل العبادة، فأهل العبادة يتحرون الحلال، قد يتركون معظم الحلال لشبهة، فضلا عن الحرام، كما قيل_ وينسب إلى أبي حنيفة ولم أقف على السند الذي يُثبت ذلك لكنني سمعت هذا من بعض أهل العلم_ إن أبا حنيفة رحمه الله جاءه رجل فقال: إنه سُرقتْ شاتي. فذهب أبو حنيفة رحمه الله أو صاحب هذه القصة إلى القصاب، رجل يعرف سن الماعز، فقال له: كم أقصى عمر للشاة أو الجدي من السنين؟ قال له مثلا: ست سنوات خمس سنوات عشر سنوات، فحرّم على نفسه أكل لحوم الشاء عشر سنوات في هذه البلد حتى لا يدخل بطنه لحم هذه الشاة ولو كان خطأ.







نعم للإنسان أن يتورع ما شاء، لكن لا يجوز لأحد أن يُفتي بهذا، ورع المتقين لا يُثبت حُكماً. تورعْ لكن موضوع الحلال والحرام موضوع ثانٍ.



فالذي يُتصور أنه يترك كثيراً من الحلال لشبهة، لو جاءه رجل وقال: قتلت إنساناً وأخذت ما معه من المال. مثلا، هل يمكن لهذا أن يحتمل؟ لا يمكن أن يحتمل مطلقاً، لهذا ماذا نقول؟ نقول: إن ورع المتقين لا يُثبت حكما. فهذا الرجل راح ضحية لسانه، بسبب/ أنه أولاً ليس "فقيه النفس"، هذا رجل قاتل، قتل تسعة وتسعين آدمياً، أي لو ذبح أيضا تسعة وتسعين لن يهتزّ له رمش ولن يهتز له طرف، فكان من المفروض أن يكون عاقلاً ويُداري، يقول مثلاً دعني أراجع، دعني أسأل، لكن لا يقول له هكذا: بعد تسعة وتسعين نفساً لك توبة؟.. ذلك الرجل انتضى سيفه وقتله وأكمل به المئة، هذا أول خطأ أخطأ فيه هذا الراهب. الخطأ الثاني الذي أخطأ فيه هذا الراهب/ أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يُفتي فيه.







إذن قلنا إن هذا الراهب ليس بحكيم، ليس بفقيه النفس، وفقه النفس يُولد المرء به، ولكنه يزداد مع مُلابسة المرء للخلق، وفتوى العالِم الذي يُلابس الناس، تختلف كثيراً عن فتوى العالِم حبيس المكتبة الذي لا يُخالط الناس، فترى على فتوى العالِم الذي يخالط الناس من البهاء في تنزيل النص على الواقعة ما لا تراه على قول العالِم حبيس المكتبة.



أحيانا يأتيني الرجل فيقول: أنا امرأتي تسبني بأقذع الألفاظ وتبصق في وجهي وتضربني_ حقا والله بعض الناس قالوا لي هذا_ ومرة واحدة أمسكت السكين لزوجها، وكانت تعمل، يقول لها اتركي العمل، تقول: أبداً طلاقي في مقابل تركي للعمل، يأتي يسألني: ما رأيك يا مولانا أطلقها أم لا؟ أقول له: يا بُني لماذا تطلقها؟ أ ليس لديك أولاد؟ يا أخي عِشْ والصابرون على خير ومن هذا الكلام. لأن من يسأل هذا السؤال بعد هذه "البهدلة" التي ذكرتها هذا لا ينفع أن أقول له: طلقها، لأنه لن يستطيع أن يطلقها، فهذا الرجل يعيش، لكنه يريدك أن تطمئنه، وإلا فأي رجل تسري دماء الرجولة في عروقه لن يحتمل هذا، تبصق في وجهه وتضربه، وتقول له إن كنت رجلا، وأبوك خلف رجلا طلقني، ومن هذا الكلام، فهذا لن يأتيني أصلاً بل سينهي الموضوع خارجاً. لكن معنى أن يأتي الرجل ويقول كل هذه المصائب ثم يقول ما رأيك أطلقها أم لا، أنا هكذا فهمت أن هذا الرجل أعجز من أن يتخذ قراراً بطلاق المرأة لأي سبب من الأسباب، فأنا أصبّره، يقول: يا عمي الشيخ هل ترى لي ثوابا لو عشت معها هكذا؟ ألهمك الله الصبر يا بُني أسأل الله أن يُثيبك.







أريد أن أقول أن فقه النفس تنزيل النص على واقع المستفتي تنزيلاً صحيحاً بالضوابط الشرعية طبعاً، هذا يسميه العلماء فقه النفس. فهذا لأنه راهب متعبد ليس له علاقة بالفتوى، ليس له علاقة بالناس، إن كره منهم خُلقاً تجنبهم، فبالتالي ليس عنده هذه الموهبة، مباشرةً قال له: تسعة وتسعين قتلتهم اخرج من هنا، فانتضى سيفه وأكمل به المئة.



ثم عرضت له التوبة مرة أخرى وهذا من لطف الله بعبده، حتى لا ييأس إنسان قط مهما كان ذنبه عظيماً، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض، أو سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب عالِم. الراهب الأول قلنا إنه أخطأ لسببين، السبب الأول أنه ليس فقيه النفس، يعامل مجرما، لن يصعب عليه أن يقتل آخر مع التسعة والتسعين. الخطأ الآخر أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يُفتي فيه لأن ليس من حق إنسان على وجه الأرض_ حاشا الأنبياء_ أن يقول لآخر لك توبة أو ليس لك توبة، فهذه ليست من صلاحية أي عالِم، هي من صلاحيات الأنبياء فقط. الذين يكلمهم الله تبارك وتعالى ولا ينقلون أبداً هوى أنفسهم في الكلام، إنما ينقلون عن الله تبارك وتعالى. هؤلاء يمكنهم أن يقولوا لك توبة أو ليس لك توبة، فقط. أما أي عالِم آخر مهما جلّ فلا يحلّ له أن يقول لإنسان لك توبة أو ليس لك توبة، لأن هذه كلمة عظيمة، لو تجرأ المرء ودخل على هذه المنطقة ممكن أن يحبط عمله كلّه. ففي صحيح البخاري من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل لأخيه والله لا يغفر الله لك. فقال الله عز وجلّ: من ذا الذي يتألّى علي_ أي يحلف علي من الإيلاء وهو الحلف كما قال تعالى {لِلَّذِيْنَ يُؤْلُوْنَ مِنْ نِسَاْئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرِ} يؤلون أي يحلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر_ من ذا الذي يتألى علي غفرت له وأحبطتُ علمك. وفي الرواية الأخرى قال الله عز وجل لنبي هذا الرجل قال: مره فليستأنف العمل. أي كل عمله الذي فات حبط وانتهى وذهب، يبدأ بالعمل من جديد كما لو كان مولوداً الآن، هذا كله بسبب كلمة تورط فيها إنسان فقالها. وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند قوي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان رجلان متواخيان في بني إسرائيل أحدهما مجد والآخر مقصر، فلا يزال المجدّ إذا لقي المقصر يقول له: لا يحل لك أن تفعل كذا وكذا، ويؤنبه ويقرّعه، حتى التقيا مرة فأكثر المجد على المقصر_ من التقريع والتأنيب وأنه لا يحل لك أن تفعل_ فضجّ المقصر وقال: أ بعثك الله علي رقيباً أم جعلك علي حسيباً، خلّني وربي_ أنت مالك؟ خلني وربي ليس لك بي علاقة_ فقال المجدّ: والله لا يغفر الله لك. فقبض الله روحهما وقال للمجد: أ كنت على ما في يدي قادراً أم كنت بي عالماً، خذوه إلى النار. وغفر للمقصر."







كلمة يتورط المرء بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفاً ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت". لهذا كان من مذهب أهل السنة والجماعة، ألا نحكم على معيّنٍ بجنة ولا نار، لا نقول فلان الفلاني من أهل النار، أو فلان الفلاني من أهل الجنة، إلا إذا كان عندنا نصٌّ صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فنحن نحكم بمقتضى هذا النص، كما نقول العشرة المبشرون بالجنة، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى لهم عكاشة بن أسلم الأسدي الذي يدخل الجنة مع سبعين ألف بغير حساب ولا عقاب مثلا، ثابت بن قيس بن الشماس، سعد بن معاذ، من حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أو حكم عليه بالنار، معنا في نص ننقله ونأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما فيما عدا ذلك فلا يجوز لأحد أبداً أن يقول فلان من أهل الجنة ولا فلان من أهل النار.



فهذا الراهب كان جاهلاً، أولا لأنه ليس فقيه النفس، فكان من الممكن أن يتصرف ويحفظ حياته، والشيء الثاني: أفتى فيما ليس من حقه أن يفتي فيه. المهم أن هذا الرجل راح ضحية لسانه وضحية جهله. عرضت التوبة لهذا القاتل مرة أخرى، دلوني على أعلم أهل الأرض أو سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ هذه المرة على راهب عالِم_ هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم_ المرة الأولى التي قال فيها دلوني على أعلم أهل الأرض دلوه على راهب، المرة الثانية دلوه على راهب عالِم .







فدل على راهب عالم، فذهب إليه فقال له: إني قتلتُ مئة نفس أ لي توبة؟ قال: ويحك، أو قال كما في الرواية الأخرى: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟ اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوما صالحين فاعمل معهم. انظر إلى الفرق الهائل بين فتوى هذا العالِم وفتوى الأول، الراهب العالم الثاني هذا، جوابه على ثلاثة مقاطع/ قال له: نعم (هذا المقطع الأول) ومن يحجب عنك باب التوبة؟ (هذا المقطع الثاني) اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوما يعملون الصالحات فاعمل معهم.



ألم يكن كافياً المقطع الأول في الإجابة عن هذا السؤال؟ قال: أ لي توبة؟ قال: نعم. انتهى. لكن العالِم ناصح، لا يتم الجواب ولا يتم النصح إلا بتمام هذا الكلام. يقول له نعم لك توبة، من الممكن أن يتورط الرجل ويظل جالساً في البلد التي قتل فيها مئة نفس، فربما يرجع مرة أخرى إلى العصيان كما سنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى. فرأى أنه من تمام النصح أن يكمل له الجواب، والنبي صلى الله عليه وسلم قال_ كما في حديث أبي هريرة_ (إنما أنا لكم كالوالد يعلمكم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشفق على الأمة من الوالد على الولد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام_ بأبي هو وأمي_ (ما تركتُ شيئا يقربكم من الله يقربكم من الجنة يبعدكم من النار إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئا يباعدكم من الله يباعدكم من الجنة يقربكم من النار إلا نهيتكم عنه). هذا اسمه_ عند العلماء_ جواب الحكيم. وجواب الحكيم لنا معه وقفة في المرة القادمة إن شاء الله تعالى مع ذكر بقية فوائد الحديث.







قلنا إن جواب الراهب العالم اسمه جواب الحكيم، فما هو جواب الحكيم؟ هو أن يُنَــزّلَ الـمُفتي الكلام على مقتضى حال المستفتي، هذا جواب الحكيم، فمن الممكن أن يزيد أكثر من حاجة السائل إذا لمح أن السائل يحتاج إلى مثل هذا؛ فحديث أبي هريرة في السنن _ وهو حديث صحيح_ قال: جاء جماعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أ فنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته" فهل سألوا عن ميتة البحر أم سألوا عن طهارة الماء؟ سألوا عن طهارة الماء ولم يسألوا عن حل الميتة. إذن لماذا زاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حكم ميتة البحر. فهذا اسمه جواب الحكيم. أن يزيد المفتي زيادة في الجواب لا يستغني عنها المستفتي، لأنهم إذا استشكلوا طهورية ماء البحر فاستشكالهم لميتته أولى وأقوى وأظهر، لأن لدينا نص عام بتحريم الميتة كلها (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) والميتة اسم جنس محلى بالألف واللام يشمل كل أنواع الميتة، كل ما مات، كان له روح فمات. والسمك يموت أيضاً فمن الممكن أن يدخل تحت الدليل العام وبعض الصحابة رضي الله عنهم، كأبي عبيدة بن الجراح_ وهو من هو في الفهم والعلم_ أعمل هذا الدليل على عمومه كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال: أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة سيف البحر وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح وأعطانا جراب تمر. تموين هذا الجيش برمته كان جراب تمر. فكان يعطينا في اليوم تمرتين تمرتين، أو تمرة تمرة، فكنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء. حتى إذا فنى التمر أكلنا ورق الشجر، وفي يوم من الأيام رمى لهم البحر بدابة عظيمة يُقال لها العنبر، وكما في الحديث أن شوكة هذا العنبر كانت طويلة جدا لدرجة أن أبا عبيدة بن الجراح أوقف شوكة هذا العنبر وأتى بأعلى جمل وأطول رجل ركب الجمل فمشى تحت هذه الشوكة. إذن فهي ضخمة جداً.







أبو عبيدة بن الجراح حين رأى البحر قد قذف بهذه الحوت على الشاطئ قال: ميتة، لا تأكلوه. لماذا؟ أعمل عموم الميتة_ حرم عليكم الميتة_ رغم أن هذه ميتة البحر، لكنه أجراه على العموم، ثم رجع إلى نفسه وقال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله ونحن مضطرون فكلوا. فصرح لهم من باب الضرورة وليس من باب أنها ميتة. (أحل لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال).



أريد أن أقول: إذا كان مثل أبي عبيدة بن الجراح وهو من هو جلالة وفهما وعلماً استشكل ميتة العنبر وهل يؤكل؟ وأكله من باب الاضطرار، فما بالك في جماعة من الأعراب يصيدون اللؤلؤ كما ورد في بعض الأحاديث في البحر. فلما استشكلوا طهورية ماء البحر فاستشكال ميتة البحر أولى لأن فيها دليل عام بتحريم الميتة في كتاب الله تبارك وتعالى، لهذا أجابهم الرسول عليه الصلاة والسلام بجواب الحكيم، فكان من الممكن أن يقول لهم: نعم، توضؤا بماء البحر. وانتهى الجواب على هذا. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم ذلك، إنما قال: هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته. فزادهم في الجواب زيادة لا يستغني المستفتي عنها.













الاتصالات في هذه الحلقة:







س: سؤال فيما يختص بالعمل في البنوك_ بنك مختص بالعقارات.





ج: بالنسبة للبنك كما عرفه العلماء_ البنوك المعاصرة_ أنه/ مؤسسة تقترض لتُقرض. ليس للبنك عمل إلا هذا، يأخذ أموالا من الناس، يقرضها لآخرين بفائدة، وهذه الفائدة يقسمها بنسبٍ هو يراها بين صاحب رأس المال والمقترض، وطبعاً هذا العمل لاشك في حرمته عند جميع علماء الإسلام هذا هو الربا المباشر بعينه الذي لا يمتري أحد فيه. فكل من اشترك في العملية الربوية فهو داخل في اللعن الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه). فالأخ صاحب السؤال يقول إنه في بنك عقاري، ليس له أي علاقة بالمسألة الربوية، لكنني في الحقيقة كنت أحتاج إلى مزيد من التفصيل، لأن الأخ ذكر المسألة مجملةً، وأرجو منه أن يتصل بي بعد الحلقة مباشرة حتى أستفسر منه عن طريقة عمله حتى أجيبه إجابة صحيحة.







س: سؤال عن الرياء، سؤال عن طفلة لها قد تتبول على سجادة الصلاة فتسأل أ صلاتها صحيحة.





ج: الضابط بين الإخلاص والرياء ضابط يسير، لكن لابد أن نعلم أن الشيطان لا يترك المرء أبداً، ففي كل عمل يتقرب الإنسان فيه إلى الله يكون للشيطان به لـمّـة، لا يتركه أبداً حتى إذا أخلص من تلقاء نفسه ولم يكن يخطر بباله مطلقاً أن يُرائي الناس يقول له: لا، بل أنت تُرائي. ولهذا السبب نقول: امضِ ولا تلتفت. فقصة أصحاب الغار الذي انطبقت عليهم الصخرة، وكل واحد منهم نظر في عمله كله فاختار هذا العمل، أنا لا أظن أن الرجل جعل يتأنق وينظر حتى يقول لا بل هذا، فيختار من عمله. لا. إذا قصد المرء وجه الله عز وجل بالعمل فهذه هي النية. ولهذا نقول: إن للشيطان نزغات في العمل، وأرجو أن المكلف يكون قوي القلب قوي الجَـنان، وإلا فإن الشيطان يصطاده. فأقول للأخت الفاضلة التي سألت هذا السؤال: هذه الوساوس ينبغي أن تُطرح ولا يُلتفت إليها، لأن هذا مبدأ وسواس يشك فيه المرء بكل شيء في حياته، فأول ما يتوقف يصطاده الشيطان. فأقول ما قال القائل لعمر بن عبد العزيز قال له امض ولا تلتفت.



أما بالنسبة للبنت الصغيرة إذا تبولت على سجادة أو شيء من هذا وجفّ وهي لا تعلم موضع البول أين هو، فلا شيء عليها، لكن أنصحها أن تلقي ثوباً ولا تصلي على السجادة [مباشرة] وإنما لو ألقت ثوباً طاهراً على السجادة وصلّتْ عليه تكون قد خرجت من هذه المسألة.







س: سؤال عن عمل المحاسب في شركة سياحية مختص بتسليم الرواتب وما شابه دون تدخل في شراء الخمور للسياح أو نحو ذلك.





ج: لاشيء فيه.







س: سؤال عن الديون، سؤال عن الفتور في القلب.





ج: بالنسبة للسؤال الأول ومسألة الدين، فالدين شيء عظيم جداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أناني جبريل فقال لي: "يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". وفي الحديث الآخر عند النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مات ميت يسأل: أعليه دين؟ فإن كان عليه دين قال: صلّوا على صاحبكم وإلا صلّى عليه_ صلى الله عليه وسلم_ وفي مرة من المرات جاءت جنازة فسأل: أعليه دين؟ قالوا عليه درهمان. فقال: صلوا على صاحبكم. فبعض الصحابة تطوع وقال: أنا أقضي عنه هذا الدين يا رسول الله وصل عليه، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وبعد يومين لقي الرسولُ صلى الله عليه وسلم الرجلَ فقال: أ قضيت دين صاحبك؟ قال: بعد يا رسول الله. ثم قضى دينه وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه قضى دينه، فقال عليه الصلاة والسلام: الآن برد جلده.



ومعروف أن الدين يحبس صاحبه فلا يدخل الجنة حتى يقضي ما عليه، فالدين مسألة خطيرة كبيرة، فإذا كان هذا الأخ [السائل] بنى أربعة أدوار أقول له أن يبيع هذا البيت أو بعض البيت ويقضي دينه، لأنه لا يضمن أن يُسدّ الدين بعد موته. فقليل من الناس الذي يكترث لسداد الدين بعد موت الميت، ويقول: (الحي أبقى من الميت.. الله يرحمه.. الأولاد محتاجون.. الخ) فيتورط بأنه لا يسد دينه، ولهذا أقول له: الدين خطير جدا وإذا كان بعض الناس سامحوا وأعطوك مهلة ولا زالوا يقرضونك المال فلا بأس بذلك أن أعطوك فسحة، أما الرجل الذي يطالب بدينه فلابد أن يعطى دينه، والآخرون إذا كنت تعلم أن وراءك من سيسد دينك بعدك، فمن الممكن للإنسان أن يكتب وصيته، فإذا كان يعلم من واقع الحال أنه إذا مات ولن يسد أحد دينه بعده فهذا يجب عليه (وجوبا) أن يقضي دينه حتى لو باع كل ما يملك.



السؤال الثاني: الأخت تشتكي من الفتور، والفتور هذا داء عام لأنه مرتبط بالإيمان، والإيمان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. ولاشك أن هذا الفتور في ساحة الدعوة كان سببا أيضاً في فتور كثير من الأخوة والأخوات بسبب قلة اختلافهم إلى المساجد أو دروس العلم ونحو ذلك. فينبغي لهذه الأخت أن يكون لها حاشية فتتواصى على فعل شيء من الطاعات. ففي كتاب البيعة للإمام النسائي رحمة الله عليه قال: البيعة على الصلوات الخمس. فمن الممكن أن يحصل بيننا نوع من التواصي على فعل الخير، الاجتماع على كتاب من الكتب، الاجتماع على كتاب ربنا تبارك وتعالى نحفظ منه ونقرأ في تفسيره ونتفقه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا واجب على المسلم والمسلمة في الجملة إذا أراد أن يخرج من مسألة الفتور هذه. كل شيء الآن مثير للإحباط الحالة العامة التي يعيش المسلمون فيها الآن مثيرة للإحباط، الحالة الخاصة التي يعيشها المرء مثيرة للإحباط، لا خلاص من هذا إلا بالاجتماع. ثم عليكِ بمطالعة أخبار أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: "معرفة أخبار القوم أحب إليّ من كثير من الفقه" أي معرفة سير الصحابة والتابعين وتابعيهم، لاسيما أهل الصدق والعلم وأهل الزهد والورع من هذه الأمة وهم بحمد الله كثيرون جدا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى مراضيه.







س: سؤال عن المرأة تقيم الصلاة لنفسها. سؤال عن قراءة آية الكرسي دبر الصلاة.





ج: طبعا أذان المرأة لنفسها وإقامتها الصلاة لنفسها هذا كله داخل في باب المستحبات، يعني إذا صلت المرأة بلا أذان ولا إقامة فلا شيء عليها. أما بالنسبة للحديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) فهذا الحديث قواه شيخنا أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى.







س: من العالم الذي تؤخذ منه الفتوى؟ ومن هو شبيه العالم في هذا الزمان؟





ج: العلم قال الله قال رســـــــــــــــــــــــــوله قال الصحابة ليس خلف فيهِ

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرســــــــول وبين رأي فقيهِ

هذا هو العلم، كتاب الله عز وجلّ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. طبعا بكل أسف مسألة التمييز بين العالم وشبيه العالم في هذا الزمان أصبحت مسألة عسيرة. لماذا؟ لأن الدين لم يعد ظاهرا، قديماً حين كان هناك اهتمام بالعلوم الشرعية والجوانب الشرعية كان أهل العلم معروفون، وطلبة العلم معرفون، وكان لهم صيت، وكان لهم تراجم أيضا، بحيث أن المرء يعرف أن هذا عالم وهذا ليس بعالم. لكن نحن نريد أن نضع ضابطا عاما الآن في زماننا. من عُرف باتّباعه للسنة، وتعظيمه للدليل وهذا قلما يخفى على ناظر أو على سامع فهذا يُستفتى. أما من ليس له شيوخ ولم يجسد ركبتيه لطلب العلم ولا يُعرف عنه تحصيل فهذا الذي ينبغي أن يًتجنب.



وقد قلت قبل ذلك إن هؤلاء الذين لم يدرسوا العلم، أفسدوا الذوق العام، فالكثير من الذين ظهروا على المنابر أو على الفضائيات أو في المجلات أو بعض الإذاعات وهم ليسوا بأهل للفتوى، هؤلاء كما قلت أفسدوا ذوق الجماهير، وهذه المسألة لها جانب سلبي وجانبي إيجابي: الجانب الإيجابي أن الناس يريدون الدين، لأن معنى أن أحد الناس لديه جهل بالعلوم الشرعية، لكن لديه لسان، يعرف كيف يتكلم ويحكي قصة هاهنا وموعظة هاهنا... لكنه جاهل، هذا يكون له أتباع بالألوف أو بالملايين، فالجانب الإيجابي في الموضوع أن الناس كلهم يريدون الدين فاعتبروه إماما. والجانب السلبي أن هؤلاء أفسدوا ذوق الجماهير.



أشبّه هذا: لو أن قوماً يمشون في صحراء واستبد بهم العطش حتى كادت أعناقهم أن تندقّ من العطش، وجدوا بئر ماء آسن (متغير الطعم والرائحة) ورجل يوشك على الموت من العطش ظل يشرب ويشرب، في البداية لم يكن مستطعما للماء لكن مع كثرة الشرب بدأ ذوقه يفسد، تعود على الماء الآسن. عندما تأتيه بماء عذب فرات سلسبيل، يقول لك: هذا الماء غير طيب الطعم. أهذا الماء غير طيب الطعم؟ لا، ولكن:



فمن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجد مراً به الماءَ الزلالا



فسد ذوقه، فبالتالي، فكلما أردت أن تعطي الدين نقياً صافيا لهذا الإنسان يعترض عليك، ويقول لك: لا.. أنت هكذا متشدد. فعندما أريد أن أصحح لهذا الرجل المفاهيم وأصلح له ذوقه فإني سآخذ مرحلة طويلة. فهؤلاء طولوا على الدعاة_ أهل العلم_ الطريق، وظهر أهل العلم في نظر الناس أنهم من المتشددين.



في إحدى المرات جاء رجل يسأل سؤالا يتعلق بحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله، معترضاً على الحديث، ماذا يقول الحديث؟ يقول: إن بنتا تجد ألما في عينيها، وكان زوجها ميتاً وكانت في فترة عدة، فجاءت أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستأذن لابنتها أن تضع كحلاً حتى لا تذهب عينها. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن تستخدم المرأة الكحل، على الرغم من أن المرأة استأذنت لأن عينها تكاد أن تذهب، وفي رواية بإسناد صحيح عند قاسم بن أصبغ في مصنفه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وإن ذهبت عينها". كيف ويقال الضرورات تُبيح المحظورات؟ إنسان تكاد عينها أن تذهب سنضع لها كحلا في فترة العدة أليس بضرورة؟ كيف لا وإن ذهبت عينها؟ فهو لم يفهم هذا ويعتبره نوعاً من التشديد وضد قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات".



نقول له: لا، ليست ضد القاعدة. أولا: لأن ذهاب عينها مظنون وليس أمراً قطعياً، فحين تقول الأم: عينها ستذهب، ليس عندها علم يقيني بأن العين ستذهب. ثانيا: توجد أدوية أخرى بخلاف الكحل، فلو تصورنا مثلا أن هذا هو الدواء الوحيد ولا دواء غيره، من الممكن أن نقول "إن الضرورات تبيح المحظورات" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الممكن أن يقول لها: لا بأس أن تستخدم الكحل. لكن توجد أدوية أخرى، المرأة يمكنها أن تعالج عينها. فكيف تذهب لما حرم الله عليها وتستخدمه في زمن العدة ويوجد دواء آخر؟ وقول المرأة بذهاب العين مسألة مظنونة؟ لو قلنا مثل هذا الكلام سيقول لك ناس: هذا تشدد. ويجوز أن تستخدم الكحل حتى في زمن العدة ولا يعرف شيئا عن هذا الحديث أو لا يعطي هذا الحديث اكتراثاً.



العالم يا إخوان يجب أن يدرس أصلين كبيرين؛ الأصل الأول علم أصول الفقه، والأصل الثاني علم أصول الحديث. أما علم أصول الحديث فيصحح له الدليل، وأما علم أصول الفقه فيسدد له الفهم، فلابد قبل أن يتكلم المتكلم أن يعلم صحة دليله، إما أن يعلم صحة الدليل من تلقاء نفسه كأن يكون محدثاً، دارسا لعلوم الحديث دراسة متينة، مطلعا على طرق الحديث، على ألفاظ الحديث، أو على الأقل يقلد غيره من أهل العلم الكبار في مسألة التصحيح والتضعيف لو لم يكن من أهل الحديث. العلم الثاني: علم أصول الفقه، فحتى يستطيع أن يفهم لابد أن يكون ملماً إلماماً جيدا بهذا العلم. يمكنني أن أعرف المتكلم إذا كان دارساً لأصول الفقه أو دارساً لأصول الحديث، أو ليس لديه فكرة عن الاثنين مطلقاً من فتاواه، فهو يتخبط في كثير من الفتاوى على خلاف النص. لهذا نقول: إن أهل العلم الذين شهد لهم أهل العصر بالأهلية، فهؤلاء خذوا عنهم، أما من لا تعرفون تاريخهم ولا تعرفون أين طلبوا العلم ولا كيف طلبوه فاسألوا عنهم أو توقفوا عن السماع لهم.







س: سؤال عن الرجل يحلّفه صاحبه، وعن يمين الطلاق.





ج: مسألة هذا السائل حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: "يمينك على ما صدّقك صاحبك" لكن هذا الكلام يكون في باب المعاريض. المعاريض طبعاً لا يجوز فيها الحلف، لأن اليمين على نية الآخر، لا على نية الحالف. بالذات إذا كانت متعلقة بينهما، فإذا كانت المسألة فيها تعريض لا يحلّ مطلقاً أن يحلف، لأنه إذا حلف صار كاذباً. والحديث صريح: "يمينك على ما صدقك صاحبك" . نعم لك في المعاريض مندوحة أن تتكلم بلا حلف، فيقول لك: تعال كل، وأنت ترى أن الأكل حرام أو فيه شيء من ذلك فقلت: إني صائم. وأنت لست بصائم الصيام الشرعي وهو الامتناع عن الأكل والشرب، فلك أن تقول: إني صائم. فإذا استحلفك وقال لك: احلف بالله أنك صائم، حينئذ لا يجوز لك أن تحلف، لأن الحلف تكون على نية صاحبك وليس على نيتك أنت.



أما بالنسبة لحلف الطلاق فهذه مسألة تعتبر من ألفاظ الكنايات، فإذا حلف أحد بالطلاق فإن المفروض أن الإنسان يستفتي المفتي فيقول هذا الطلاق يقع أو لا يقع، وهذا الكلام بعد مناقشة تصير بين الحالف والمفتي. فإن أجراها مجرى اليمين المحض وما قصد وما خطر على باله (قط) أن يطلق امرأته، فالفتوى عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهي المعمول بها في بلادنا وفي بلاد الشام وسائر بلاد الإسلام أنها تصير يميناً. فهو حينئذ لو كان يميناً أو حتى لو كان يميناً صريحا وأقسم بالله عز وجل أو بصفة من صفات الله تبارك وتعالى فهو على الخيار، أي حلف بالله العظيم أو قال: "علي الطلاق_ وقصد أن يجريها يمينا_ ألا آكل هذه الليلة" فهل يظل إلى الصباح لا يأكل مطلقا؟ نقول له: لا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت التي هي خير". إذن في هذه الحالة لا يجب عليه (وجوباً) أن يظلّ إلى آخر الليل لا يطعم ولكن يكفر عن يمينه ثم يطعم، والتكفير عن اليمين إما أن يكون قبل أو يكون بعد والله أعلم.







س: سؤال عن علاقة الرجل بخطيبته بعد أن من الله عليه بالالتزام، وعن تأثر عمل والده في الشرطة بسبب إعفاء لحيته.





ج: بالنسبة للخطبة، فالخطبة وعد بالزواج فقط، ليس لك عليها حقوق وليس عليها لك حقوق، امرأة أجنبية والخاطب إنما أبيح له النظر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي أحرى أن يدوم الود بينكما، فالرجل حين يخطب المرأة يمكن أن يذهب مرة واثنتين وثلاث وأربع وعشر وعشرين، لا يوجد حد معين في السنة لعدد المرات التي يرى الرجل فيها المرأة، لكنه إذا وصل إلى قناعة أن هذه المرأة تصلح أن تكون امرأة له، انتهت الرخصة التي رخصها الشارع للرجل ينظر إلى المرأة الأجنبية فقد عادت المرأة أجنبية كما كانت فلا يجوز أن يراها ولا أن يكلمها في الهاتف ولا ..الخ، إلى أن يعقد عليها العقد الشرعي، أقول هذا الكلام لأن الكثير من الأسئلة التي تصلني بخصوص هذه المسألة هل هناك حد معين لرؤية الخاطب لمخطوبته؟ لا، حتى يصل إلى قناعة، قد تكون من مرة من مرتين من ثلاث من أربع من عشر من عشرين عندها الرخصة الشرعية انتهت وصارت المرأة أجنبية فلا يحل له أن يكلمها فضلاً عن أن يغازلها فضلا عن أن يخرج معها طبعاً. فأنت بالنسبة لك لا يحل لك مطلقا أن تكلمها ولا أن تجالسها فضلا عما كان يحدث بينكما قبل زمان الالتزام.



أما بالنسبة للسؤال الثاني: فإعفاء اللحية (واجب) والواجب عند الجمهور يعني فرض لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أعفوا اللحى وقصوا الشارب وخالفوا المجوس" وفي الرواية الثانية "وخالفوا اليهود والنصارى" ومعروف أن الأمر المجرد عند علماء الأصول الذي لم يحتفّ بقرينة صارفة فإنه يظل على وجوبه، وليس هناك قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب. أما الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها ومن عرضها فهذا حديث كذب لا يصحّ وعليه فلا يجوز لك أن تحلق لحيتك.







س: سؤال عن فتوى للشيخ في قناة الناس عن الرجل يعظ امرأته لتصلي الفروض ثم يطلقها، فما حكم الزوج الذي لا يصلي؟ وما تصنع زوجه معه؟





ج: بالنسبة للفتوى التي أفتيتها على قناة الناس فحين سئلتُ هذا السؤال قلت: إن الرجل إذا سلك كل سبيل، سلك الموعظة وسلك الهجر، وسلك سبيل الضرب ومع ذلك أصرت المرأة على ألا تصلي، قلت له طلقها، واليوم التالي جاء أحدهم من بعض البلاد العربية سأل بعض المشايخ الفضلاء من إخواننا وقال له: يوجد شيخ سأله أحدهم ماذا أصنع إذا كانت امرأتي لا تصلي قال طلقها. طبعا كان جواب الشيخ: لا، بل اصبر عليها ومن هذا الكلام. فبعض الناس حين اتصل بي وحصل لديه نوع من اللبس وظن أن هناك نوع من المعارضة بين جوابي وجواب الشيخ الفاضل جزاه الله خيراً، وأنا أقول لا جواب لكن سؤال السائل ناقص، فالسائل لم ينقل الصورة التي ذكرتها كاملة، لماذا؟ لأن جواب الشيخ_ حفظه الله_ الذي أجاب في هذه المسألة، قال له اصطبر عليها. لكن أنا أقول: إذا وعظها وهجرها وضربها هذا كله ماذا؟ كل هذا صبر عليها، ومع ذلك تصر المرأة على أن تترك الصلاة التي هي الفارق بين الكفر والإيمان، فهذه المرأة لا خير فيها، وكذلك أقول: الرجل الذي لا يصلي ويصر على ترك الصلاة لا خير فيه ومن حق المرأة أن تطلب الطلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة". والمرأة عندما تذهب إلى مفتٍ من المفتين الذين قد يستنكرون مثل هذه الفتوى تقول له: زوجي يضربني ويعلقني من شعري ويجرني في الشارع وأمثال هذا الكلام ولا أقدر على العيش معه، يقول لها تطلقي، لماذا؟ لأن هذا بأس. أو الزوج بخيل لا يطعمها ولا يكسوها ولا يعالجها ومع ذلك يشتمها ويسبها بأقذع الألفاظ، يقول لها يجوز أن تطلقي لأن هذا بأس، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من غير بأس" فأيهما أعظم؟ أن يترك الرجل الفارق بين الكفر والإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وفي الحديث الآخر "بين العبد والكفر الصلاة فمن تركها فقد كفر"، فالمرأة التي تعاشر رجلا مصرا على ترك الصلاة هذه أعظم من نافخ الكير، فنافخ الكير كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: "إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشم منه رائحة منتنة". فالمرأة إذا سألت الطلاق فهي محقة كل الحق في أن تطلب الطلاق حتى لا تعاشر رجلا عقّ ربه تبارك وتعالى وعقّ نبيه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي المسلمين وأن يردهم إلى دينهم رداً جميلا أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لابداء رأيك

 

روان- إسلاميات © 2008. Chaotic Soul :: Converted by Randomness